وداعاً يا كحلَ الشعر

منصة 2021/06/22
...

د. عبد الخالق حسن
مثل نجمة أفلتت من مجرة بعيدة، تسير ويسير معها الضوء، هكذا كانت لميعة عباس عمارة.
تلك الجميلة التي كانت تسبح عند الكثير من الضفاف الانيقة روحاً وإبداعاً، غادرت الحياة بعيداً عن بغداد التي شهدت مسقط رأسها وروحها، وكانت شاهدةً على انفجار الألوان من بين يديها لتمنح الحياة بهجةً لن تتكرر.
فهي التي نشرت بعمر الرابعة عشرة أولى قصائدها التي أذهلت شاعرا كبيراً بحجم ايليا ابو ماضي.
تعرفت إلى لميعة في صباي، حين كنت استمع لقصيدتها المغناة بصوت الراحل عارف محسن(لو أنبأني العراف). كنت أقرأ اسمها مع النص وأحاول استجماع ملامح وجه هذه المرأة، التي تريد الصلاة خرساء في طقوس الحب.
بعدها امتلأت بالشغف المستفِز لملاحقة قصائدها التي تطلقها مثل هلاهل نساء الجنوب في الأفراح.
ثم لاحقاً حين تخصصت بالأدب، درساً وتدريساً، تعرفت أكثر إلى قيمة لميعة في الشعرية العراقية الحديثة، التي ستظل قطعاً من دونها ناقصةً للرومانسية النسوية المعجونة بنكهة المدينة وخضرة الأرياف.
فموقع لميعة في الشعرية العراقية يأتي بعد نازك، التي طرقت باب الشعر واختلست أهم مفاتيح التحديث، حين كان الشعر حكراً على الرجال. فضلا عن أن معجمها الشعري مع عدم تعقيده وربما بساطته أحياناً،لكنه كان يسير في طريق خاص لا يمتلك معنى الاهتداء إليه سواها.
كأنها قطاةٌ تهتدي إلى عشها الترابي من بين آلاف الأعشاش المحيطة به.
السبب في هذا هي الروح المترفة الطفولية، التي ظلت ملاصقة لخيال وسلوك لميعة، حتى في شيخوختها. وليس هناك أجمل من خيال الأطفال قطعاً.
لهذا، ستجد أن لميعة في شعرها الفصيح هي نفسها لميعة، التي كتبت أعذب وأرق قصائد الشعر الشعبي (أرد اسألك.. وبحسن نية محلّفك بالله ترد.. ربك بيوم الصورك.. چم يوم طينك بيّته بماي الورد).
هل قرأتم وتذوقتم ترافة كلام مثل هذا؟.
كأنها ورثت عن قومها الصابئة البارعين بصنع الذهب وصياغته، سرَّ الصياغة، لكنها هنا صياغة الكلام بهيئة قلائد سحرية.
اثنان وتسعون عاماً هو عمركِ الافتراضي فقط يا لميعة. عمركِ الحقيقي هو عمر الشعر وضحكات بنات بغداد الأنيقات، حين كنت تختالين بينهن مثل ملكة سومرية.
حين نعيت لميعة في صفحتي في فيسبوك كتبت صديقة جزائرية شاعرة تعليقاً على النعي «إن خبر موتها كأنْ تستيقظ صباحاً وتجد غابةً كاملةً قد اختفت».
كان الأمر هكذا حقاً.
أحسست لحظة قرأت خبر نعيها أن أرضنا جاحدة حين تبرعت برفاة لميعة لأرضٍ غريبة وبعيدة. لكن لعلَّ الريح ستحمل بعض رفاتها يوماً لتمتزج بغيمة ماطرة ولتنبت نخلةً عند ضفة دجلة الذي استمع لصرخات بكائها الأولى.