تجارب فرنسا.. إرث نووي لا يزال يسمم حاضر الجزائر

بانوراما 2021/06/22
...

  سايمون سبيكمان
  ترجمة: ليندا أدور
يجلس عبدالكريم تهامي (عمره يقارب الثمانين عاما) مبتسما على كرسيه يتحدث للتلفزة من منزله بمدينة تامنراست، جنوبي الجزائر، وهو يصف التجارب النووية الفرنسية التي جرت على مقربة من بيته وأثرها الوحشي الباقي حتى الآن.
بين الأعوام 1960 و1967، وصل مجموع التجارب النووية التي أجرتها فرنسا الى 17 اختبارا في منشآت عسكرية فرنسية بعد نيل الجزائر استقلالها سنة 1962. وما زالت الكثير من النفايات والمخلفات الناتجة عن اختبارات الاشعاعات، بضمنها الدبابات والمروحيات وطائرات مقاتلة بأكملها، مدفونة تحت الرمال وبحجم ثلاثة آلاف طن، وفقا لأحدث تقديرات الحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية في فرنسا (ICAN France)، ولا تزال سميّة هذه المواد المدفونة تتسرب الى البيئة والناس ومحاصيلهم وثرواتهم الحيوانية ولا يزال الماضي مستمرا بتلويث الحاضر. 
 
الجربوع الأزرق
رغم مرور عقود على تلك الاختبارات، لم تكشف فرنسا عن تفاصيل وموضع النفايات المدفونة في الرمال، ولا عن سجل الاصابات جراءها، فوفقا للتقديرات الفرنسية والجزائرية، يعيش ما بين 27 ألفا و60 ألف شخص، مع أحفادهم، آثار تلك التجارب النووية جنوبي الجزائر. والمنطقة لا تزال مشعة، فقد هبت رياح من جنوب البلاد، مؤخرا، حملت معها رمالا صحراوية باتجاه الأراضي الفرنسية، وظهر لاحقا أن غبارها كان مشعا.
يستذكر تهامي، أحد الاختبارات المبكرة التي اجريت، وأطلق عليه {الجربوع الأزرق»، لتخليد جربوع الصحراء وجزء من العلم الفرنسي، بقوله: «طلب الفرنسيون من الناس ألا يخافوا، إذا ما شعروا أن الأرض تتحرك»، وراح يصف الانفجار الذي وقع سنة 1960 على بعد 180 كيلومترا من قريته وبلغت قوته 70 كيلو طن (أي ثلاثة أضعاف القنبلة النووية التي دمرت ناغازاكي): «كان عمري حينها 17 عاما، ولم نر أي دخان، وقد شعرنا بأن الأرض تهتز»، وكان مندهشا لأن جميع الجنود الفرنسيين والوزراء والعلماء الذين تجمعوا لمشاهدة التجربة لم يتوقعوا قوة تدمير الانفجار لهذه الدرجة.
 
الاختبار الكارثي
بدأ سكان المنطقة ملاحظة إصابات وأمراض سرطانية مختلفة، رافقها ارتفاع حالات التشوهات الخلقية الولادية بمستوى غير مسبوق. يقول تهامي: «كنا نعلم الآثار التي يمكن أن تتركها الأسلحة النووية والإشعاع على الأشخاص». ولكونه مدرسا للغة الفرنسية في مدرسة القرية، كان وضعه أفضل من الآخرين لمراقبة انتشار الأمراض، بقوله: «أدركنا ما الذي كان يجري، وبدأنا نلاحظ تأثير الإشعاع في الأطفال والمواليد الجدد».
أما التفجيرات اللاحقة، فقد تم نقلها الى باطن الأرض، ضمن منشأة في جبل إينكير، فأجري 13 اختبارا نوويا آخر، اثنان منها هي الأكبر حتى الآن، بضمنها الاختبار الكارثي لعام 1962. وقد انفجرت قنبلة كانت بزنة 40 كيلو طنا، على جانب الجبل، وكان من المفترض ان تحتويها قذيفة محكمة الإغلاق، متسببة بتناثر صخور ملوثة إشعاعيا في الصحراء، مؤدية الى تلويث الجنود والمراقبين لمتابعة الاختبار، والمناطق الريفية والبيئة المحيطة. 
وفقا لبحث أجراه صحفيون جزائريون لاحقا، وصلت السحابة المشعة الى قرية ميرتوتك التي تبعد 60 كيلو مترا، متسببة بوفاة 17 شخصا بعد وقت قصير، ومرض الكثير من الأهالي. في العام 1967، تم تفكيك القواعد العسكرية وتسليمها للجيش الجزائري، ودفن كل شيء في الرمال، من مخلفات الحياة العسكرية اليومية مرورا بأسلحة يعتقد تلوثها بفعل الانفجار كالطائرات والدبابات التي استخدمت في الاختبارات، وحتى المخلفات المنبعثة من الانفجارات نفسها.
 
قانون مورين
يعلق تهامي، بأن النتيجة كانت أن «محاصيل ونباتات القرية تحتوي على مواد يتناولها الأطفال فيمرضون، وأصبح أطفالنا يولدون بعاهات وتشوهات بسبب الثمار التي نأكلها، أو الواردة من تربة مسمومة». يقول تهامي: «لكن سكان قريتي يعيشون فيها برغم الدمار الذي لحق بها، فالمرء غالبا ما يشعر بالحنين الى المكان حيث ولد، فالناس يعيشون فيه بسلام وقد تقبلوا حياتهم فيه كما هي، فهم مرتبطون بالأرض، ولا يفكرون في مغادرتها». 
تظهر لقطات بثها التلفزيون الجزائري قبل عامين، صورا مروعة عن الحياة في تلك المناطق، اذ يظهر فيها آباء من قرية قريبة من موقع الاختبار في بلدة رفان، وهم يحملون أطفالهم المولودين بإعاقات جسدية أو عقلية شديدة نتيجة تعرضهم لنشاط إشعاعي.
الى جانب نقص المستلزمات الطبية، تقول الطبيبة، خيرة حرزاوي، بأن: «هناك الكثير من الحالات لأجنة معاقين، فضلا عن حالات لا يمكن حصرها من الإجهاض». 
في العام 2010، انضم تهامي الى منظمة “تاوريرت” الحقوقية المشتركة مع نشطاء فرنسيين، لجمع البيانات المتعلقة بتلك الاختبارات، لدعم المطالبة بالتعويضات بموجب قانون «مورين» لإنصاف ضحايا التجارب الفرنسية في الجزائر وبولينيزيا. فقد تلقت 1400 طلب من بولينيزيا، في العام الماضي، ومؤخرا، وبفضل أبحاث من جامعة برينستون وغيرها، سيرتفع العدد الى نحو 100 ألف. لكن الجزائريين قدموا 53 طلبا فقط، بسبب شروط التقديم الصارمة وحاجز اللغة العربية مقابل إجراءات تهيمن عليها اللغة الفرنسية بالكامل. لكن تصاعدت الآمال، مؤخرا، مع تسهيل الوصول الى الأرشيف الفرنسي المتعلق بحرب التحرير الجزائرية والكشف عن طبيعة والموضع الدقيق للنفايات. لا تزال الوحشية التي اتسمت بها الحقبة الاستعمارية مؤثرة في السياسة الفرنسية، وقد يتسبب نبش إرث الاستعمار المسموم جنوبي الجزائر بتأخير النتيجة. يشير جون ماري كولين، أحد مؤلفي تقريرICAN France) ) الى ممانعة فرنسا التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، الأمر الذي من شأنه فتح الباب أمام الكثير من قضايا التعويضات البيئية والانسانية لجنوب الجزائر وعلى نطاق واسع. 
ما زاد من تفاقم الأمر، هو موقف الحكومات المتعاقبة، التي فضلت التركيز على بربرية الاستعمار الفرنسي، بدلا من تنفيذ نظام رعاية صحية وإغاثة إنسانية للمناطق التي تضررت بفعل التجارب النووية، الموقف الذي يمكن تفسيره، وفقا لكولين بأن الحكومات الجزائرية المتعاقبة قامت بطرد فرنسا عسكريا وسياسيا من عموم البلاد سنة 1962، لكنها سمحت للفرنسيين بالبقاء ومواصلة اختباراتهم جنوب البلاد. «القضية كبيرة بالنسبة للجزائريين، وهم لم يفعلوا الا القليل، فهم ينتقدون كثيرا، لكنهم لم يعالجوا هذه القضية أو يتحملوا المسؤولية عنها»، والحديث لكولين. وفي تامنراست، يقول تهامي مبتسما: «اعتدنا الحوار السياسي الذي يتغير مع تغير الظروف، لكن الأمل موجود دائما في أن الحقيقة ستظهر في النهاية».
*صحيفة الاندبندنت البريطانية