نوستالجيا التسعينيات

منصة 2021/06/23
...

 غفران حداد
كثيرٌ من الناس أصبح لديها هوسٌ وربما إدمان في استعادة ذكريات الماضي من خلال ما ينشر من صور وفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة خصوصاً حقبة التسعينيات، على الرغم من أن هذا العقد من السنوات شهد الكثير من الأحداث مثل نهاية الحرب الأهلية اللبنانيَّة وحرب واشنطن على العراق واجتياح العراق للكويت وبداية الحرب الأهلية على اليمن، كذلك الحصار الاقتصادي الطويل الذي عانى منه الشعب العراقي.
لكنْ بالرغم من كل هذه الأحداث عاش الجمهور العربي ولأول مرة دراما من نوعٍ جديد وهي المسلسلات المكسيكيَّة المدبلجة التي حملت بين حلقاتها قصص حب وشغف والجمال الباذخ في اختيار المناظر الطبيعيَّة للتصوير فيها.
عشقنا غوادالوبي، وألفريدو، بطلي هذا العمل في ساعة عرضه كانت تفرغ الشوارع والمكاتب التجارية تُغلق، حتى الكثير منا بات يقلد مفردات اللغة العربية الفصحى في المسلسلات التي كانت تعرض من {أحبكِ غوادالوبي}، {تبا لك أيها المستبّد}، حتى {حبيبتي كاساندرا}.
كانت هناك قناتان فقط تبثان فقرات متنوعة من الدراما والبرامج ولكنها كانت أياماً جميلة يحنون إليها، رغم أنَّ اليوم بين أيديهم أطباق الستلايت التي وفرت آلاف المحطات الفضائيَّة العربيَّة والأجنبيَّة.
كثيرون لديهم الحنين لهذه الأعمال وتلك الأيام ربما لأنها ساعدتهم في محاربة الحزن والإرهاق النفسي الذي مروا به في مراحل مختلفة من حياتهم.
كانت النوستالجيا تنقل الكثير إلى عصر {الأتاري} وألعاب {ماريو}، رغم ثورة الغوغل ولوحات الشاشات الذكيَّة التي أتاحت للجميع الترفيه بالكثير من الألعاب الحديثة والمجانيَّة.
حنين المواطن البيروتي على سبيل المثال لأيام التسعينيات عندما كانت حسب وصفهم سنوات كانت فيها {الليرة بتحكي}، بعكس هذه الأيام التي سقطت الى أدنى مستوياتها.
النوستالجيا أخذت كثيرين لبساطة أيام استخدام الزير الذي يسمونه بثلاجة الفقراء ومنظر البطيخ والرقي وأطباق الفواكه تحت قطرات ماء الزير وتبريده بصورة طبيعيَّة، حنينٌ غريبٌ إليه في ظل وجود الثلاجات الحديثة في كل منزل.
الكل تأخذه النوستالجيا لصورٍ قديمة فيها ملامح من صباحات الفطور بـ{الكاهي والگيمر} وكاسات الشاي المهيّل فوق سطح الدار ومنظر الأسِرَّة التي تقضي العائلة النوم عليها في ظل انقطاع التيار الكهربائي ولكنهم يؤكدون أنها جميلة حيث النوم لجميع أفراد العائلة بظل نسمات الهواء الباردة وتأمل النجوم وعدّها، حتى يصل كل واحد منهم لذروة النعاس. 
النوستالجيا لعقد التسعينيات حيث كاسيتات أشهر أغاني المطربين ومتابعة نشرة الأخبار عبر راديو القيثارة أو عبر شاشات التلفزيون ذات الحجم الكبير، والحنين لسماع دقات الهاتف الأرضي، وحين يرن جميع الأولاد يركضون وكل واحد منهم، هذا الاتصال لي.
ذكريات الزمن الجميل هكذا يصفها جيل الشباب العربي اليوم، بأنها صورٌ لن تمحى من الذاكرة، يتذكرون بحزنٍ كبيرٍ تلك الطفولة الجميلة رغم أنها معبأة بصوت صفارات الإنذار لبدء طبول الحروب والغارات الليليَّة، نسوا الطائرات التي ترمي مئات القنابل وهم يتصفحون صور الطائرة الورقيَّة المصنوعة من الجرائد ومتابعة البرنامج التعليمي (المناهل) وكارتون (ساندي بيل) و(الكابتن ماجد) و(بربر شاطر)، 
شريط الذكريات يقلهم إلى مذاق الآيس كريم بنصف درهم وهي عبارة عن عصائر مثلجة بمختلف الألوان والمذاقات تدعى {الأزبري}، ولون الشامية الحمراء (بوشار الذرة) التي تلون ألسنتهم بالأحمر الداكن كلما تناولوا منها أكثر، حتى ممن أصبح اليوم أباً وأماً يتذكرون بحنينٍ كبيرٍ زمن الرسائل الورقيَّة وانتظار دقات باب من ساعي 
البريد.
أصبحت النوستالجيا لدى الكثيرين المورد النفسي ليستعيدوا حيواتهم التي كانت ذات يوم بنظر البعض منهم بائسة وفقيرة.
لماذا لا نصنع واقعاً جميلاً بعيداً عن تلميع وتفخيم الماضي، لماذا اليأس من المستقبل، فلكل عصر وعقد من السنين جماله، دعونا نحلم بغدٍ أفضل يحمل أجمل الذكريات عن الواقع الذي بين أيدينا اليوم، لماذا نجعل من النوستالجيا والشعور بالانهزامية يسيطر علينا؟
لماذا ننسلخ من واقعنا ونصّر على العودة للعيش في ذلك الزمن عبر تصفحنا صوراً نراها في مسلسلات التسعينيات، ونعتقد في ذلك الزمن فقط توجد فيه الحياة الهادئة والنفوس الطيبة والترابط الأسري والذوق الرفيع في طريقة الأدب والفن والحشمة رغم السفور، لا يمكن الإغراق في العيش بتلك الصور وذاك الزمن ونريد العيش فيه كأسلوب حياة وننعزل عن حاضرنا؛ لأنَّ ما موجود اليوم لا نرى أنفسنا فيه ولا نشعر به حتى.
يقول الكاتب حسين أمين في كتابه (كيمياء السعادة): {إنَّ جهل الغالبية بالتاريخ يسهل على الناس تزييف الماضي فلو عدنا إلى الماضي بملابساته الحقيقيَّة بعد تقديسه وتفخيمه لأصابتنا خيبة أمل عظيمة}.
ويؤكد بعض الإخصائيين النفسيين أنَّ الإفراط في تصفح ذكريات وصور الماضي له آثارٌ سلبيَّة على الكثيرين خصوصاً على الذين كانت لديهم تجارب سيئة وحزينة في الماضي من فقدان الأحبة وخسارة منزل قضى المرء عمراً فيه أو بعده عن وطنه الذي أجبر على العيش بعيداً عنه.