إعلاء صوت المؤلف بعد موته

منصة 2021/06/23
...

  جميل الشبيبي
يشكل كتاب الناقد محمد جبير (عارياً أغادر هذا العالم - استذكار ومراجعة الأثر ط1 2021) مكانة مهمة في أدب سيرة الآخر مشخصة في قراءة سيرة المبدعين بعد رحيلهم، والكتاب يكشف بشكلٍ باهرٍ عن معاناة هؤلاء الكتاب حين يكتبون نصوصهم الإبداعيَّة ويكشف معاناتهم وحزنهم العميق وهم يلاحظون الإهمال المتعمد لنتاجهم الإبداعي بوصفه خلاصة لأفكارهم وسيرة حياتهم الإبداعيَّة.
والكتاب يستقي حضوره وأهميته، من حرص الناقد محمد جبير على إيضاح أهمية ديمومة وتواصل الكتابة الإبداعيَّة في العراق بوصفها علامة على تجدد الحياة الثقافية والاجتماعية وهو رسالة محبة (لكل من غادرنا من الأصدقاء الذين تجمعنا معهم مشتركات الذكرى الاجتماعية والثقافية (....) ممن رحلوا لتبقى ذكراهم خالدة في ذاكرة الأجيال القادمة من الباحثين والدارسين لمسيرة السرد العراقي ص10 لما للأدب من أهمية في رصد الواقع وكشف حركته الصاعدة وهجاء الأفكار والممارسات التي تحد من هذه الحركة وتعمل على إيقافها.
والناقد محمد جبير يرى أنَّ (السارد هو الشخص الوحيد القادر على إعادة تركيب شريط اللحظة وصياغة خرائب العالم الى فراديس أحلام ص 8 ) وقد عمل المؤلفون المبدعون على وفق ذلك لكنهم واجهوا الإهمال المتعمد لأسبابٍ لا علاقة لها بالإبداع.
كانت فكرة هذا الكتاب قد (ومضت بعد أنْ شعرت بفراغٍ كبيرٍ إثر رحيل الروائي حميد الربيعي في زمن كورونا ص5)، استثمره الكاتب ليبعث عشرات الأسماء من مبدعينا من رقدتهم الأبديَّة ويعيدهم إلى الحياة من جديد، يسرد حياتهم الشخصيَّة وظروف تشكل عالمهم ومعاناتهم في تجسيد عوالمهم وحزنهم وقلقهم من الإهمال المتعمد لنتاجهم الإبداعي، في هذا الكتاب: سنرى معاناة ثلاثي السرد حميد الربيعي وأسعد اللامي وهما يعانيان المرض الخبيث ويحثان الخطى لإكمال روايتهم في حين ينطفئ محمد علوان فجأة متنبئاً بموته الوشيك حين يكتب في صفحته قائلاً: (في الطريق الى المقبرة الكبيرة سلكنا الطريق ذاته الذي سيسلكه الأبناء في طريقهم إلينا ذات يوم ص 11).
سنرى معاناة عبد الستار ناصر وفخره وهو يتحمل مرارة السجن بعد كتابته قصته الشهيرة (سيدنا الخليفة) ليخرج بعد ذلك مزهواً بانتصاره فقد كتب ما يريد أنْ يكتب ص76).
وتحت عنوان (مرثية نضاليَّة) ينهض فهد الأسدي من موته بسبب المرض العضال حين يعرض الناقد نتاجاته القصصيَّة والروائيَّة ومعاناته في إبداع شخصياته الروائيَّة والقصصيَّة وحكاية حلب بن غريبة التي جسد فيها (شخصية ايقونيَّة خالدة تختزل الظلم والاضطهاد وانسحاق الإنسانيَّة داخل ذوات الإنسان العبد ص85) والناقد يضمن مرثيته النضاليَّة البليغة إشادة بالسجل الحياتي لهذا القاص منذ ولادته حتى وفاته عام 2013 فهو (لم يتزحزح عن ثوابته التي بقي ثابتاً عليها حتى وإنْ كلفه ذلك الكثير من التهميش والتجاهل من الوسط الثقافي ص 78)
أسماءٌ وروايات وحياة مفعمة بالنشاط تسرد في هذا الكتاب نتعرف فيها على غزارة (السارد المغدور) علاء مشذوب وهو يصدر عشرين كتاباً بين عامي 2010 وعام 2019 عام اغتياله، ثم يعرض روايته (انتهازيون ولكن) بوصفها إدانة للوضع الجديد في العراق بشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ وجريء ص92).
ومن الأسماء التي يتناولها الكتاب، المفكر عزيز السيد جاسم والروائي محمد شاكر السبع والروائي والمترجم منير عبد الأمير الذي كان من أوائل الروائيين العراقيين في كتابة الرواية وقد نشر روايته (رجلان على السلالم) عام 1968 بعد رواية (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان وهو يقول عن روايته تلك (لو انها نشرت في وقتها وهي على ما فيها من قيمة روائية للعبت الدور المطلوب في إنارة الحديث عن الرواية العراقيَّة، ولكنها لظروفٍ اقتصاديَّة نشرت عام 1968)، ما يعني أنها تنافس النخلة والجيران ريادتها للرواية الفنية في 
العراق.
ونيابة عن الروائي الراحل منير عبد الأمير يضيء الناقد الحياة الثقافية لهذا الروائي الذي نشر روايتين وأربع قصصٍ قصيرة وقصصاً مترجمة وكان صديقا للفنانين الرواد وله علاقة بالمسرح والسينما لكنه (كان في حياته يشعر بالغبن الثقافي على الرغم من علاقته الواسعة بالمجتمع الثقافي ص134) وفي رحيله لم ينل تأبيناً لائقاً أو حتى استذكاراً لهذا الإنسان الطيب ص 142.
وتحت عنوان (ما قبل التغيير اعتقال وإعدام وتهجير) كتب سيرة الراحل الذي أعدمته السلطات الفاشية حميد ناصر الجيلاوي، سيرته الحياتيَّة والثقافيَّة بشكلٍ مكثفٍ وذكر العديد من قصصه المنشورة في الصحف العراقيَّة ومجموعته (بيت للشمس والحجر 1073) ثم يورد شهادة الروائي علي عبد الأمير صالح عن هذا القاص الذي وصف شخصيته وأدبه (لم يكن الشهيد حميد يتساهل مع نفسه ولم يكن ينشد الاسترخاء والراحة والطمأنينة، لأنَّ الطمأنينة عفنة، كما يقول طاغور لم تكن الكتابة عنده نزوة ولا بطراً ولا تباهياً ص 174).
وبعد مرور اثنتي عشرة سنه على رحيله كتب الناقد تحت عنوان (كاظم الأحمدي الثلاثيَّة السرديَّة أنتجت ثنائيَّة) بشكلٍ مطولٍ عن القاص والروائي كاظم الأحمدي ورحلته مع الكتابة القصصيَّة والروائيَّة ومحنته مع النقد والنقاد، بعد أنْ يئس من النقاد لأننا (نعيش في مجتمع ثقافي أناني ما زال جاحداً لإنجازات مبدعيه ويعيش على العلاقات الشخصيَّة والمجاملة ويضيف (لأن المجتمع الثقافي كان منقسماً على نفسه ولا يرضى بالإبداع إلا من أطراف سياسيَّة محددة، ومن كتاب حددوا مسبقاً 
ص 164).
كان الأحمدي يدرك هذه الإشكاليَّة، ويعرف أنَّ رواياته وقصصه قد تعرضت للإهمال والتجاهل لهذه الأسباب وليس لأسبابٍ فنيَّة وكان فخوراً بإنجازه وكان يقول عن بعض قصصه في مجموعته (غناء الفواخت) (كانت غناء الفواخت قد نضجت فيها القصة. في هذه المجموعة أجمل القصص التي كتبتها في السبعينيات، اقرأ الممرات الجنوبيَّة أو الإجازة، فالممرات الجنوبيَّة ليس لها مثيل في القصة العراقيَّة والعربيَّة، وإذا تجرأت فسأقول ليس لها مثيل في القصة العالمية ص 166).
ويحدد منهجه بأنه (كاتب واقعي، يكفيني أرى المدينة بحواسي، وقد كان على ان امن دون أنْ يشوه ما أراه- مهمتي كاتب قصة، ربما اسمي واقعيتي بالواقعيَّة الهادئة، أو البيضاء أو واقعيَّة المدينة 
ص 162).
إنَّ العشرات من المبدعين قد غادروا وفي أعماقهم غصة التجاهل والإهمال وكتاب الصديق الناقد محمد جبير دعوة صادقة للاهتمام بجدية وصدق بالتاريخ الأدبي للأدب العراقي مجسداً 
بهذا السجل الكبير من الراحلين المبدعين وهو يطرق أبواب النقاد بعنف مذكراً إياهم بمسؤوليتهم الأدبيَّة والثقافيَّة وضرورة اهتمامهم بإنجازات الراحلين من المبدعين؛ لأنَ2 من رحل وهو حزين يشكل خسارة كبيرة لنا ويدق الناقوس بأنَّ الأحياء منا سيلقون المصير ذاته إذا استحسنوا هذا 
الإهمال.