الصورة الأسريَّة.. {صيادو الذاكرة} وكارثة تسونامي اليابان

بانوراما 2021/06/24
...

 سيليا هاتون
 ترجمة: ليندا أدور
إذا كان لديك 60 ثانية فقط داخل منزلك قبل أن يدمر، ما الذي ستفكر في أخذه معك على وجه السرعة؟ ربما المجوهرات، أو لعبة محببة من الطفولة، لكن بالنسبة للعديد من الناس، لا يوجد ما هو أثمن من الصورة الأسرية. 
في أعقاب أعنف زلزال في تأريخ اليابان الذي هز ساحلها الشرقي وتسبب بسلسلة من موجات التسونامي الشاهقة، تلك الكارثة التي حدثت في آذار 2011، قتل نحو 16 ألف شخص، جثث الكثير منهم لم يتم العثور عليها. لحظتها، كانت "تومومي شيدا" تفتش في المدرسة الابتدائية التي تعمل فيها بحثا عن طلبتها، على مبعدة ساعة عن منزلها بمدينة أفوناتو الساحلية، ولم تكن هناك طريقة للوصول، او لتعرف ان كانت أسرتها قد نجت أم لا، حتى سمعت عبر الإذاعة أن مدينتها قد طمست بالكامل، وأن المكان حيث تعيش لم يعد أثر له في الوجود.
استغرق الأمر عدة أيام لتعرف شيدا (48 عاما)، مكان تواجد ولديها المراهقين ووالدة زوجها المسنة، لكن كان عليها ان تعثر على زوجها، رجل الإطفاء المتطوع، الذي تنحصر مهمته بغلق بوابات تسونامي في المدينة، وقد كان لا يزال على قيد الحياة بعد أن نجا بإعجوبة. خسروا كل شيء ولم يبق من منزلهم سوى أثر بسيط، أو هكذا كانوا يظنون، حتى انكشف لهم بعد عدة أسابيع، أثمن شيء يمتلكونه. تقول شيدا: {تعرّف أحد رجال الإطفاء على وجه زوجي من خلال صورة كانت غارقة وسط كوم من الأنقاض، وقد بدا الضرر عليها، وكانت بسيطة، إذ التقطت في استوديو عندما كان الأولاد صغارا"، لكنها أصبحت فجأة أثمن ما للأسرة من ممتلكات، هي ذكرى لأوقات أكثر بساطة وأكثر سعادة، أوقات لا يمكن تصويرها ثانية}. 
تكررت تجربة أسرة شيدا في أماكن أخرى مختلفة من الساحل الشرقي، عندما تلقى رجال الإنقاذ اليابانيون المكلفون بالبحث عن مفقودين، بعد اسبوعين من تسونامي، أوامر بإنقاذ الصور الفوتوغرافية كذلك، فبدؤوا بجمعها عند نهاية كل زاوية شارع، ووضع الألبومات والصور المؤطرة التي يجدوها، كان معظمها مغطى بالطين والوحل وقد شوهتها المياه، في صناديق بلاستيكية ليتم فرزها. 
كان يويتشي إيتاباشي، مهندس كيميائي تحت التدريب، يشاهد أهوال كارثة تسونامي عبر شاشة التلفاز في منزله بطوكيو، وأدرك أن بإمكانه المساعدة: {بعد بضعة أسابيع، كان تقرير إخباري عن أشخاص في منطقة الكارثة، يحاولون تنظيف صورهم وغسلها}.
 كان إيتاباشي يعمل لدى شركة "فوجي فيلم" لصنع الكاميرات، ومسؤولا عن قسم التصوير فيها، فعمل مع زملائه ليومين، على استعادة ظروف تسونامي بوضع مياه البحر ووحل على صور لتشبيه الضرر الذي حصل، من ثم اكتشفوا كيفية إصلاحها واستعادتها ثانية.
 
كاميرا الأسرة
من دون إعلام شركته، ذهب إيتاباشي، وبرفقة زميلين، الى منطقة التسونامي مستأجرا سيارة كهربائية، خشية من توقف محطات الوقود هناك، {كنا نعتقد بأن الناجين بحاجة الى الماء والطعام ومكان ليناموا فيه، لكنهم قالوا بأنهم بحاجة الى صورهم}، يقول إيتاباشي، مضيفا {يمكن شراء كل شيء عندما نجني المال ثانية، لكن من المستحيل شراء هذه الذكريات}. 
بدأ الوقت يمضي سريعا على تلك الذكريات، فما أن غمرت المياه المالحة المنازل، طمست الصور في الالبومات والمعلقة على الجدران، اذ يمكن للصور أن تحافظ على شكلها لنحو 72 ساعة فقط، ان تعرضت للبلل، بعدها يبدأ الجيلاتين المثبت للصورة على ورق التصوير بامتصاص الماء، ثم تبدأ الكائنات الدقيقة بالتهام الجيلاتين فينمو العفن، وتتحول الصورة الى لون بني وتصبح ضبابية وباهتة. 
على مدى عقود، نمّت اليابان من حبها للتصوير الفوتوغرافي، تقول يوكو شيرايوا، مختصة بترميم وصيانة الصور: منذ ستينيات القرن الماضي، كانت كل أسرة تمتلك كاميرا، بالتالي لدى كل أسرة البومات صور في منزلها، ورغم التطور هناك قوة كامنة ودائمة في الصور المطبوعة، لكن بسبب كارثة التسونامي، فقد جميع الصور التي كانت مخزنة ألكترونيا. 
في كل البلدات على طول الساحل، وعندما لا يتم العثور على المزيد من الجثث او الناجين، يبدأ العمل على انتشال الصور، فأطلق المتطوعون على أنفسهم أسم "صيادو الذاكرة"، لإنقاذ الصور وغسلها ومحاولة العثور على أصحابها. كما تشير الشرطة بأنه تمت إعادة 80 بالمئة من الهواتف الخلوية المفقودة الى جانب إعادة 60 بالمئة من المحافظ الى أصحابها، وغالبا، في ذات اليوم.
عن طريق إعلان من شركة فوجي فيلم ومشاركة شركات أخرى ظهر جهد واسع يضم متطوعين من خارج البلاد، ومنهم بيتشي مانسون، التي تعد من أمهر منقحي (مرتّشي) الصور في العالم، أصلها من شمال انكلترا وتعمل في نيويورك. أوقفت مانسون عملها لتنضم كمتطوعة انقاذ للتخفيف عن الكوارث، ولدى ذهابها للمساعدة في تنظيف {أونسن onsen} (حمامات الينابيع الحارة في اليابان)، في منطقة ريكوزينتاكاتا، علمت أن المكان قد أصبح موقعا لخزن الآلاف من الصور المتعفنة، التي تم إنقاذها وقد عبأت في أكياس بلاستيكية. 
غمرت مانسون الدهشة وهي ترى بعض الناجين يبكون بعد رؤيتهم صورهم المضررة، فوظفت مهارتها العالية لإصلاح الصور المتضررة. وإتصلت بمنقحي صور آخرين تعرفهم وطلبت منهم المشاركة، وفي غضون أسابيع، انضم إليها فريق من 500 شخص من السويد الى نيويورك، لإصلاح الصور. 
وبدأت القصص والحكايا تتعاظم، إحداها عن إمرأة فقدت جميع أقاربها، ولم يتبق منهم سوى سبع صور من رحلة مدرسية، وأخرى عن صورة لفتاة ترتدي الكيمونو، بحاجة الى إعادة بنائها بالكامل، وقد استغرق العمل أياما، قام المرتّش خلالها بنسخ التصميم المطرز من صورة مشابهة، ليتمكن من إعادة الصورة بشكل دقيق. 
 
صور يتيمة
كان التحدي الأكبر الذي واجهته في مهمتها مع الصور اليابانية هو "استعادة الصور الى ما كانت عليه، فأنت لا ترغب بتدمير ذكرى لشخص ما عن طريق إتلاف صورة وبطريقة ما"، والحديث لمانسون. 
في أحد الأيام، جاءت شيدا للقاء مانسون ومعها صورة الأسرة تم إنقاذها باستخدام قطع من صور مختلفة للأسرة لإنشاء صورة كاملة جديدة، تظهر فيها شيدا مع زوجها وولديها، {أعطيناها الصورة بمناسبة عيد ميلاد ابنها، وقد بكت فرحا}، تقول مانسون، تعلق شيدا الآن الصورة في غرفة نومها بعد أن فقدت كل ممتلكاتها.
الى جانب الصور، تم إنقاذ وتنظيف العديد من المقتنيات الشخصية كحقائب الظهر المدرسية والأعمال الفنية، التي لم يطالب بها أحد، على أمل أن يتم ذلك يوما ما. كانت المرحلة تتطلب شخصا كفوءا ليتولى إدارة المرحلة التالية، فكلفت ماري آكياما، العاملة في وكالة الكوارث، بذلك، لتستمر العملية 10 سنوات، بقيادتها. لكن اليوم، أصبح الأمر أكثر تعقيدا، اذ اصبحت آكياما مسؤولة عن مكتبة جيدة التنظيم للأشياء المفقودة، والمعروفة ب"مركز أرشيف سانريكو للتخفيف من الكارثة"، حيث يتم جمع الأشياء وفرزها الى مجموعات فوق رفوف كالشهادات المدرسية أو منحوتات خشبية، بعضها مغلف بالسيلوفان، لا يُعرف إن كان أصحابها قد ماتوا أم لا يزالون على قيد الحياة، وان مقتنياتهم بانتظار استعادتها. تقول آكياما: {الأشياء تستعيد قيمتها عندما تعود لأصحابها الذين يقدرونها ويعتزون بها}، لذا يقوم المركز، مرة في الشهر، بطباعة كتيبات بالصور والأشياء {اليتيمة}، توزع بين العيادات وصالونات الحلاقة وغيرها من الأماكن، على أمل ان يتعرف أصحابها عليها. "في طوكيو، هناك العديد من الأشخاص يعودون مرارا وتكرارا، يأملون من خلالها العثور على ممتلكات تعود لأشخاص لم يعثر على جثثهم"، تقول آكياما، مشيرة الى أن احدى السيدات دأبت على تمحص الصور العشوائية على مدى تسع سنوات حتى عثرت على صورة واحدة لزوجها المفقود، بينما لجأت أسرة أخرى الى السكن بقرب المركز على أمل العثور على شيء. 
 
موقع بي بي سي البريطاني