كلام كثير قرأناه حول (من هو المثقف؟)، ليس ابتداءً بالنظر الى المعنى الحياتي للثقافة على أنها سلوكٌ، وطبيعة هذا السلوك، خاصة في مجال اتخاذ المواقف وكيفية المواجهة، هي التي تحسم هوية المثقف من غيره، وليس انتهاءً بمن يرى أنَّ المثقف هو (المبدع)، وكلام أكثر حول التحصيل العلمي أو الشهادة وهل يعدُّ حاملها مثقفاً أم متعلماً.. الخ، فاذا تجاوزنا مثل هذه التنظيرات المملة، فإنَّ (العرف الشعبي العام) قد وضع معاييره التي سنأتي عليها، وهذه المعايير من حيث لا تقصد جعلت المثقفين أكبر شرائح المجتمع وطبقاته، وهو أمر لا يزعج – طالما هو حقيقة- الفلاحين ولا البروليتاريا ولا العاطلين عن العمل ولا المحاضرين الذين يتولون التدريس مجاناً بدافع وطني بعد أنْ توقفت الدول المانحة عن تقديم العون للعراق...
ولو تحدثنا بلغة العشائر من باب المجاز، فإنَّ المثقفين في العرف الشعبي يعدون أكبر قبيلة في البلد من دون منازع، لأنها تضم الأطياف التالية: شعراء العمود والحر وقصيدة النثر (الجدل لم يحسم حول الشعراء الشعبيين)، وكتاب القصة والقصة القصيرة جداً، والقصيدة والرواية والمسرحية والنقد (يستثنى من ذلك كتاب السلاطين وكتاب العرائض)، والفنانين على تنوع عناوينهم، مطربين ملحنين موسيقيين ممثلين ورسامين ونحاتين وخزافين وفوتوغرافيين ومخرجين وراقصين وراقصات (يستثنى من ذلك المهرجون من الزعاطيط الذين دمروا الذائقة الفنية، وما زالت بعض الفضائيات التي تتاجر بأصواتهم تقدمهم للناس على أنهم مطربون)، مثلما تضم العلماء والمفكرين والفلاسفة وأساتذة الجامعات ورجال الإعلام والأطباء والصيادلة والمهندسين والقضاة والمحامين، وما زال في شريحة المثقفين متسعٌ للمزيد.
اللافت للنظر في هذا العرف، إنه استبعد السياسيين عن شريحة المثقفين – ربما لأنَّ ثقافتهم أحادية – مع أنهم كما يفترض من أفضل المثقفين، مثلما استبعد بالمقابل شريحة المثقفين عن السياسيين، مع أنهم كما يفترض من أفضل السياسيين، وقد أدى هذا الاستبعاد بين الطرفين على مدى عقود طويلة من تاريخ العراق الى ولادة نوعٍ من الجفوة بينهما، تصل في أيام الذروة الى حد العداء، وأرى – من باب الاجتهاد وليس اليقين أو العلم بالشيء – أنَّ السياسي في تكوينته (طالبُ سلطة)، أما المثقف فطالبُ (إبداع)، وأنَّ السياسي يتعامل مع الحكومة مباشرة، بصفة (مؤيد أو نصير أو معارض)، وبذلك فهو قريبٌ من السلطة بعيدٌ عن الشعب، وأنَّ المثقف يتعامل مباشرة مع الشعب، وبذلك فهو قريبٌ من الشعب بعيدٌ عن السلطة، وبمحصلة المقارنات الطويلة، فإنَّ السياسي دائمُ الحذر إنْ لم أقل الخوف من المثقف لأنه مؤهلٌ لمنافسته على كرسي الحكم، في حين لا يخشى المثقف من السياسي لأنه لا يمكن ولا يقدر أنْ ينافسه على إبداعه، ولأنَّ السياسي وصل الى السلطة مئات المرات، وأسس حكومة سياسيين، بينما لم نسمع عن قيام حكومة واحدة للمثقفين، فقد اضطهد السياسيون (أصحاب الحمايات) خصومهم مئات المرات، واجهضوا أحلامهم آلاف المرات.. السياسيون أذكياءٌ حقاً، لأنهم منذ بدأ العراق يمارس ديمقراطية الانتخابات لم يتوجهوا بخطابهم إلى المثقفين مع علمهم انهم الشريحة الأكبر، ولأنهم يعرفون كذلك بأنَّ أصواتهم المبدعة لا يمكن خداعها أو تضليلها أو شراؤها..!