الصباح الأخير

منصة 2021/06/28
...

   أزهار علي
 
انفتح الباب الموصد أخيراً، لكنَّ المصباح لم يضئ، حاولت أنْ أجد الزر وأضغطه، لكنه لم ينتشر في المكان وبقي كل ما هناك معتماً، أنا وقفت فرِحة من دون أنْ أفكرَ بسبب توقف الإضاءة، لكنه كان الباب الذي انفتح أمامي فجأة ولا أعرف كيف وأين وجدت المفتاح الضائع مني منذ شهر تقريباً، كانت الغرفة قد أوصدت وبقيت ألواني ولوحاتي ودفاتري وثيابي وأحذيتي، حبيسة الأدراج والرفوف والزوايا فيها، ما هذه الرؤيا، كيف دخلت أنا الى هذا الحلم، هل هو ما أفكر به بالفعل أم أني أبحث عن مخرجٍ من ورطتي!.
فكرت بذلك ما أنْ فتحت عيني، كنت قد نمت بعد يومٍ مضنٍ مليء بتفاصيل البحث والنبش، نمت وقد أقنعت نفسي بأنني يجب أنْ أرتاح وأهدأ لأفكر ولأجد ما ضاع مني.
تفاصيل وتفاصيل في هذا المكان، ركامات وركامات، تسور وحدتي الضائعة أمام هذه السنين المتربة، في البيت والذات وعلى الجدران، لم أوفر ما يستحق الذكر من دون أنْ أحوله الى أشياء، أشياء وأشياء لم ولن يدرك قيمتها من يعرفني ومن سيرثني، أنواع وأشكال كثيرة لعرائس ولعب بأثوابٍ مزركشة، ثياب ضاعت ألوانها كانت باهظة الثمن، لم ألبسها يوماً، تعلقت موديلاتها على زمنٍ ما، وماطلت بعض أشكالها الاندثار لتعود في حياة جديدة، الأحذية أيضاً مثل الأثواب والقمصان، تراكمت كراتينها في الزوايا، ونسيت مع مرور الوقت كيف أمشي بكعوبها المخيفة، أما علب المكياج الفاسدة، فلها تاريخ آخر مرسوم على وجه قصصي الليليَّة المعتمة.
الأهم من ذلك كله، هو الأنواع والأشكال من ألوان الرسم المتحجرة، والفاسدة والمتربة، والمتحولة بفعل الزمن، مع لوحات متعددة الأحجام لم تضربها فرشاة في يوم
ـ كيف لأم وزوجة أنْ تفكر بالرسم من دون أنْ تفكر بأولادها وراحة زوجها ليل نهار؟
سؤال كان يضعه أمامي كل يوم، يراكمه مع هواجس الخوف والظلمة من حولي، يحول الأيام الى أبيض وأسود، زوجة وأم.
في الغرفة الموصدة أيضا هنالك، سيجدون العديد والمزيد والكثير، من الدفاتر المدرسية، معنونة بأكاذيب يومية صغيرة، أسماء لطالباتي الصغيرات.
كل سنة وما أنْ أنظر في وجوه الأطفال، حتى تتشبث عيناي بوجه صغير خجل، يحاول أنْ يضحك، مسور بأيام ليست أيامه، أجدني في عيني طفلة من تلميذاتي، فأعنون دفتري لذلك العام باسمها، وقد تنتهي صفحات الدفتر قبل أنْ ينتهي العام الدراسي، فأخترع وجهاً واسماً جديدين، وربما امتد العام لثلاثة دفاتر أو أربعة. تفاجأت بأنَّ عدد الدفاتر قد تجاوز الخمسين حين عددتها قبل أيام، دفاتر كذباتي الصغيرات.
الكذبات الصغيرة، قصص، العديد والعديد من القصص، أشخاص يعيشون معي ولم يرهم أحد سواي، أجدد أشكالهم، وأسماءهم، ومشكلاتهم، أطلق وأزوج، أميت وأحيي، وأدعي قرابتهم بي في الغالب، أو معرفتي بهم دائماً، أضعهم في سردية طويلة أمام إحداهن ممن يمررن على أيامي، معلمة تضيع أيامها مثلي في بيت وصف وخطة درس، بياعة خضار اعتدت الدردشة معها في السوق، أم لطفل تشتكي مصائب حياتها بعد أنْ ضاقت بها لتفلت الأحاديث هنا أو هناك، قريبة تدعي قصة فرح لحياتها البائسة التي أعرف تفاصيلها، أمي وهي تعيرني بأخت تجيد حياة المطبخ بكامل أنوثتها، وتحتفي بتفاصيل التنظيف اليومي بكل الشكر والامتنان. كن يحكين عن حياتهن المليئة، بينما ليس لي حكاية إلا ضم ما يروينه، لم يكن أمامي إلا أنْ اخترع رواية ـجاري مصائبهن بها، قصة ـ  كذبة صغيرة، أعود بها يومياً الى الدفتر المدرسي، فأدونها وأخترع لها تفاصيل وأذرعاً وأقداماً وعينين ولساناً، حكايات منهن جميعا، عنهن، عنا، جنون ضياعات متاهات قد أدخل فيها أياماً، أراكمها، ألونها، أقرب الأشكال مني، أضع القوالب في حدود مفتوحة، وأكتب.
ما لن يجدوه بعدي ولن يعرفوه في حال من الأحوال، ايضا، صفحة في الفيسبوك بعنوان «أوهام» أنشر فيها منذ أعوام بعضاً من قصص الكذب التي باتت حبيسة دماغي منذ سنوات التقاعد الأخيرة، لتعود للظهور غير القابل للإرث على صفحة أوهام. 
الليل المؤقت قارب على نهايته، وأنا ضعت في لوحة أمامي على الجدار، يوم أبيض وهمي يرسم بعض الفوضى في طقسه، فتاة تركض في غابة عملاقة، صغيرة معدومة الملامح، بملابس لا تنبئ بسوى الرحيل او الهروب، تركض وتركض، ربما يتبعها كائن خرافي ضخم من الهراء، وربما تركض لترمي بجنونها في النهر الغاضب امامها، ام ربما انها معلمة تأخرت عن الدرس فخافت العقوبة....
احتمالات مفتوحة وجدتها في رأسي الاشيب وأنا أرتب مخاوفي أمام وحدتي الدائمة.
نظرت صوب الجزء الآخر من الفراش، فارغ ابيض منفوخ بجسد من الهواء الداكن، يدعي بأنه جسد رجل ما يسمى زوجي، تدعي الحكاية بانه يوفر لي هذه الجدران التي تسورني، والوجبات الثلاث التي تقيت حياتي، والظلمة التي تمنحني النوم الهانئ، وادعي بأنه ينفس عن غضب ايامه بركل دموعي متى شاء وأنى شاء، وسحبي من بين ركام الاشياء له كيف شاء، ادعي بأنه كان يتسلم عن يدي، وقتي وفرحتي وراتبي، يتناول يومي كل صباح مع وجبة إفطاره، ويمضي دون أنْ يترك لي لحظات اتنفسها لأعيش، ادعي وادعي وادعي، وفي النهاية هناك حكاية، تسور حكايتي، وتؤطر عيني وانا انظر في اللوحة وافتح احتمالاتها، او احتمالاتي.
الضوء الهامش الذي صار على وشك الصباح، يضع امامي سفرة الاوامر والنواهي التي سيفتح عينيه وفمه بها، فتحت جهاز الموبايل، فرشت أوهام تجاعيد قصصها أمامي، كتبت أصابع اليوم الفائت بوستاً جديداً أمامي «اليوم رحل عنا زوجي الحبيب، صارع الوباء، قاتل الفناء، وها أنا أنتظر الآن فقط».