ثلاثُ صورٍ لكبارِ الِسّن

ثقافة 2019/02/19
...

ياسين النصير
 
 
يشكل ثنائي كبار السِنّ، ثيمة تاريخية وثقافية، لرؤية متغيرات الزمن، خاصة إذا ما اقترن الثنائي بفكرة الحداثة والتطور. وقد عالج الأدب بنية ثنائية كبار السن، بطرق مختلفة، بحيث افضت كل طريقة إلى إكتشاف مساحة من التأمل في ظاهرة كونية كي يكون ثنائي كبار السن فيها مفصلا حداثويا وثيمة ادبية أولا، ثم ثيمة فلسفية ثانيا.
مسرحية "فاوست"
 في اول تعامل ملفت للنظر، يتم مع العجوزين اللذين يسكنان بيتا في حقل في مسرحية "فاوست" لغوته،  حيث يجب ان يزاحا بفعل ما يشهده المجتمع نتيجة اكتشاف القوة الكهربائية من تغيير، فاستثمار العقل الحداثوي في استغلال قوى الطبيعة من أجل تحديث المانيا في القرن الثامن عشر، هو الميدان الحداثوي للعقل التقني، بعد ان أصبح العالم الغربي يتمتع بتقنيات علمية مصحوبة بتصاعد التوعية القومية وانتشار المعرفة والثقافة الحديثتين، وانحسار الأثر الديني الرجعي في حياة الناس،  فقرر رجل الحداثة بتغيير مجرى التاريخ اولا بمصاهرته للشيطان، وثانيا في استثمار قوى الطبيعة، وكان عليه ان يزيح هذين العجوزين اللذين يقفان بوجه شق الطرق، بالرغم من طبيتهما وما يوفرانه لسكان القرية من منتجات زراعية بسيطة، إلا أن وجودهما كان يعرقل مسار تحديث الأرض، لذلك قرر غوته على لسان مفيستوفليس ان يزيح بيت العجوزين، وأن يلقي بهما خارج التاريخ الذي بدأت ألمانيا تجسده في تغيير الجغرافيا المادية للمجتمع بعد تغييرها الجغرافيا الروحية، حين اتفق رجل الحداثة مع الشيطان التقني ويتفاجأ العجوزان وهما ينهضان صباحا بان التراكتور بدأ بقطع الأشجار وازالة الحديقة المحيطة بالبيت ثم بدءا بإزالة البيت، ليصبحا عاريين من اية ملكية لهما، شأنهما شأن الملك لير في مسرحية شكسبير، عندما تقاسمت بناته مملكته ليبقى نهبا للعاصفة الممطرة والبرد، شبه عارٍ في مملكته. 
فالحداثة تأتي على الحلقات الضعيفة اولا بالرغم من ان العجوزين كانا غير مؤذين ولم يعطلا مسار تحديث المانيا، لكنهما يمثلان الثقل الزمني المتمثل بالماضي الذي بقي متمسكا بالأرض بآلية زراعية بسيطة وبملكية شخصية دون تطويرها.
 
مسرحية "النفايات"
النموذج الثاني كان في مسرحية دورينمارت "القاذورات" أو النفايات، عندما أضرب عمال البلدية مطالبين بزيادة أجورهم ولم تستجب السلطات لمطاليبهم، فاضربوا عن العمل، مع بقاء الناس في بيوتهم يستهلكون يوميا ما لديها من مواد غذائية ومكملات الحياة البيتية، فساءت حالتهما نتيجة الإضراب المستمر حين بدأت القاذورات تتراكم وتسد نوافذ البيت والرؤية، فما  تفرزه حياتهم من نفايات هو في صلب الحداثة عندما تفكر المؤسسات أن انتاج المجتمع ليس دائما إلى الأمام.  وعندما لم تنفع توسلات السلطة بانهاء الأضراب وعدم تلبية مطاليب عمال النظافة، معتمدةعلى قدرة المواطن العادي في ازاحة ما يمكنه من القاذورات بنفسه، تتحول المشكلات الثانوية والهامشية إلى قوة تغيير.
لقد كشف حال العجوزين اللذين ينظران من نافذة بيتهم إلى أكوام القاذورات وهي تملأ مداخل البيوت، بعد ان ملأت الشارع، فما كان منهما إلا الإستسلام للموت، ليس نتيجة عجزهما عن الخروج، ولكن إلى اين يخرجون والشوارع قد قطعتها القاذورات، لابل انهما لم يستطيعا حتى الخروج من بيتهم، فقد سدت القاذورات الأبواب ووصلت إلى النوافذ. مما يدل على أن إنسان الحداثة عليه أن يكون ضمن هيمنة السلطة وليس ضمن مشروع التحديث، وهو الأمر الذي يكشف زيف ما تدعيه السلطات من أنها حداثوية. لا تتحدث المسرحية عن الحداثة فقط، وليس لديرنمارت مشروعا تحديثيا للمجتمع، إنما تتحدث المسرحية عن لا معقولية الحياة التي تصاحب مشروع الحداثة، عندما تكون لصالح السلطة فقط، هذه العبثية المريرة لا تأتي إلا على الحلقات الضعيفة من بنية المجتمع، خاصة تلك التي تؤمن بأن ما يحدث لها هو من مقدرات قوى غيبية ترعاها قوى سلطوية مستفيدة من تعطيل الخدمات وتراكم النفايات ليس على ابواب المنازل فقط، إنما في العقول التي تعيش عبثية الاعتقادات السلفية الدينية والاديولوجية المتحجرة.
 
رواية "الرجع البعيد"
النموذج الثالث العجوزان التركيان في محلة جديد حسن باشا اثناء انقلاب شباط الأسود، في رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي حين اختلطت لغتهما بأصوات المدفعية وقصف الطيران لمقر وزارة الدفاع العراقية، تجد أن هذين العجوزين، يمثلان التركة العثمانية الباقية في العراق، والتي لا تجد بديلا لها إلا البقاء حية في مجتمع يعود للخلف، اللغة الشعبية التي يتكلمان بها لم تفهم، لقد كانت الصوت الداخلي للزمن العثماني المتراكم. لأنهما غير معنيين بما يحدث خارج البيت الذي يحتويهما، بقدر عنايتهما ببقائهما احياء، وان يتوفر لهما الأكل، وانهما لم يشهدا طوال حياتهما قصفا قريبا منهم، الامر الذي رسم فؤاد التكرلي فيه خارطة مرتبكة للمجتمع العراقي من خلال نموذجين، دأبا على السكينة والهدوء. شكل ثنائي العجائر لدى التكرلي الإرث العثماني الباقي على الأرض العراقية، وهو إرث قديم يئن تحت ثقل التاريخ، لكن أن يقترن وجودهما بتغيير النظام بالقوة، وأن هذه القوة تحدث بالقرب منهما، وانهما غير قادرين صدها او البقاء أحياء في سياق قدر مجهول هو ما يشكل تلك الصور المأساوية للعراق.
تعطينا النماذج الثلاثة، صورة بانورامية لفكرة الحداثة، كيف يمكنها أن تكون عامل تقدم في فاوست غوته، وكيف يمكنها أن تكون سلطة مالية عبثية لايهمها حياة الناس بقدر ما يهمها السيطرة على القوى الاجتماعية المنتجة والخدمية في قاذورات ديرنمارت، وترسم صورة مأساوية مربكة لوضعية اجتماعية لا تعرف مصائرها في قلب بغداد المدينة التاريخية وعاصمة الدولة الإسلامية لقرون عديدة. .فالأنظمة، مهما كانت وجهتها تكون دائما ضد من يقف في طريقها، حتى لو كان هذا جزءا من هوية التقدم.