باسم رازو.. دعوة للتسامح رغم خسارة فاقت التصور

بانوراما 2021/07/01
...

 جين عراف
 ترجمة: ليندا أدور
بدت شقة باسم رازو، في مدينة أربيل بكردستان العراق، نظيفة جدا ومرتبة، لا تعمها الفوضى كمعظم منازل الأسر، ضمت خزائن مطبخها النظيفة عبوات من قهوة ماكسويل هاوس، العلامة التجارية التي كانا هو وزوجته، ميادة طاقة، مولعين بها خلال فترة إقامتهما في الولايات المتحدة طيلة ثمانينيات القرن الماضي.

بجوار شاشة التلفاز العريضة في غرفة المعيشة، رصت بعناية مجموعة كبيرة من لعب {يونيكور unicorn} المخملية الوردية اللون وأشكال أخرى من اللعب المحشوة، على كرسي أزرق بذراعين، بانتظار الزيارة المقبلة لحفيدته ذات الثلاث سنوات، ميادة، التي يقول عنها رازو (61 عاما)، انها أصبحت كل حياته. سميت الفتاة الصغيرة على اسم جدتها، ميادة، زوجة رازو الراحلة التي قُتلت مع ابنتهما، تقى (21 عاما) أثناء غارة جوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، استهدفت منزلهما بمدينة الموصل سنة 2015، ضمن الحرب ضد عصابات داعش 
الإرهابية.
رغم إصابته بجروح بليغة، نجا رازو، الذي كان ينام على بعد بضعة أقدام عن زوجته، لكن شقيقه وابن شقيقه توفيا في الهجوم الثاني الذي استهدف منزلهما المجاور. كان يحيى، الابن الثاني لرازو، ووالد ميادة، قد فر الى أربيل منذ بداية احتلال داعش للموصل.
 
لا اعتذار
بعد تحرير المدينة سنة 2017، تم توثيق قضية رازو ضمن تحقيقات أجرتها مجلة نيويورك تايمز التي كشفت عن أن مقتل مئات المدنيين في غارات التحالف تم من دون إقرار أميركي بذلك، اذ لم تعتذر واشنطن عن استهداف منزل رازو بطريق الخطأ لاشتباهها بأنه مصنع لسيارات داعش المفخخة، وهو ما أقدمت عليه الحكومة الهولندية العام الماضي، عندما اعترفت بأن أحد طياريها نفذ الضربة الجوية على منزل رازو، فقدمت له تعويضا ماليا بلغ نحو مليون دولار.
كان من الطبيعي إدراك مدى شعور رازو بالمرارة بسبب الهجوم وفقدانه لزوجته وابنته، لكنه، بدلا من ذلك، كان يدعو الى التعاطف والتسامح، من خلال عمله مع مجموعة {العالم في حوار}، الذي يربط طلبة جامعات اربيل والموصل والنجف مع أقرانهم في الولايات المتحدة عبر حوارات على الانترنت. ومع ان رازو لم يكن مستعدا للقاء الطيار الهولندي، لكنه بعث اليه برسالة تقول: {أعلم انه كان جنديا وكانت مهمته تنفيذ الأوامر، فلو كان يعلم أن ثمة أسرا هناك، لم يكن ليقصف المكان، لذا فإنني 
أسامحه}. 
في العراق كغيره من الدول، ردة الفعل الأكثر شيوعا، هو النذر بالانتقام، يقول رازو في مقابلة أجريت معه مؤخرا: {البعض يقول ان التسامح هو فعل الجبان} ، لكنه كمسلم، فهو يؤمن بأن مصير الإنسان قد كُتب قبل أن يولد، مضيفا في تعليقه عن سبب بقائه على قيد الحياة بالقول: {لا تفسير لدي سوى أنه القدر}، مضيفا {ربما هو قدري أن افعل ذلك، أن أعظ بأفكار، واتحدث عن التعاطف وأدعو للتسامح والمغفرة}. بعض من ذلك، كان قد بدأ بعد صداقة أقامها رازو في العام 2013، مع البروفسور سام ريتشاردز، عالم الاجتماع بجامعة ولاية بنسلفانيا، الذي التقاه صدفة خلال حوار له في TEDX عن الاجتياح الأميركي للعراق، بعنوان {تجربة راديكالية في التعاطف}، حين طلب ريتشاردز من الأميركيين تخيل كيف سيشعرون لو تعرضت الولايات المتحدة للغزو والاحتلال؟. انتهى الأمر، وبناء على طلب ريتشاردز، بأن بدأ رازو بالتحدث في كل فصل دراسي الى طلاب علم الاجتماع الذي يضم 700 طالب عبر رابط صوري لكنه توقف بعد حادثة 
القصف. 
بعد مرور عام، عاد ريتشاردز وطلب من رازو استئنافها، وتم ذلك بالفعل، اذ سافر الى الولايات المتحدة للتحدث شخصيا الى الطلبة، بعد ان جمعوا له مبلغ الرحلة، حيث التقى هناك مسؤولين عسكريين ومشرعين في محاولة منه لحث الجيش الأميركي على القبول بتحمل المسؤولية والمساءلة عن القصف، لكن لم يحدث ذلك حتى الآن، وبدلا من ذلك عرضوا عليه مبلغ 15 ألف دولار كدفعات مواساة، لا تكفي حتى لإصلاح الأضرار التي لحقت بسياراته جراء القصف، وقد رفض العرض. الى جانب عدم تسلمه لرسالة من محام عسكري، وُعِد بها، تؤكد عدم ارتباط أي من أفراد أسرته بعصابات داعش الارهابية. 
 
الخطأ الأكبر
في العام 2018، بدأ عمله مع {العالم في حوار}، التي تحدث خلالها عن كل ما مر به طلاب الموصل من أحداث وأهوال وشعور بالمرارة جراء فقدانهم ثلاث سنوات من حياتهم 
الأكاديمية. 
نشأ رازو في أسرة معروفة من الطبقة المتوسطة العليا بمدينة الموصل، تلقى تشجيعا من والده الصيدلاني لدراسة الهندسة، ودرسها بالفعل بجامعة ميشيغان وتخرج منها. كانا قد تجاوز سن العشرين بقليل، عندما تزوج من ابنة عمه، ميادة طاقة، وسارت حياتهما على ما يرام، وأبديا رغبة بالبقاء في الولايات المتحدة، لكن بحلول العام 1988، طلب منه والده العودة الى الوطن: {قال لي أنت أكبر أبنائي، وأريدك أن تكون بجانبي، وتفرض التقاليد ألا أرفض طلبا لوالدي، فكان هذا خطأي الأكبر}، يقول رازو. مع سيطرة عصابات داعش على مدينة الموصل العام 2014، كان رازو حينها يعمل مدير حسابات لشركة هواوي الصينية، وخشية أن تلجأ داعش لمصادرة منازلهم وأعمالهم إذا ما غادروا المدينة، قررت أسرته البقاء ليجدوا أنفسهم عالقين هناك. في ليلة القصف، ذهبت ميادة الى الفراش مبكرا، بينما ظل رازو مستيقظا يتابع مقاطع مصورة عن السيارات على حاسوبه الشخصي، رأى ضوء يتسرب من غرفة ابنته، فطلب منها إغلاق هاتفها الخلوي، وخلد الى النوم، وما هي إلا ساعات قليلة وجاء الهجوم. يستذكر رازو الحادثة بقوله: {صوت الانفجار يفوق الوصف، حدث انفجاران، أصاب الأول منزلي والثاني منزل أخي الراحل، فكان ظلاما حالكا، وانقطع التيار الكهربائي، وعندما انقشع الدخان، نظرت فرأيت السماء}. فقد انهار السقف والطابق الثاني بالكامل، فقتلت زوجته وابنته على الفور، ونجت زوجة أخيه، بعد أن قُذفت خارجا من النافذة. جعلت هذه الحادثة من زارو شخصا مختلفا، فقد غيرت فيه الكثير وبات يرى الأشياء من زوايا مختلفة. بالرغم من تأكيده على مبدأ التعاطف والتسامح، إلا أنه لم يغفر للجيش الأميركي الموافقة على قصف 
منزله.
 
*صحيفة نيويورك تايمز الأميركية