الحكومة تغري سكان الريف بمنازل سعرها 500 دولار

بانوراما 2021/07/04
...

 لينا باتاراغس
 ترجمة: خالد قاسم
بدأ يوشياما سيتشي بإعادة تقييم حياته في 2011، وتحديدا آذار من تلك السنة، عندما ضرب زلزال توهوكو شمال شرق اليابان وأثار تسونامي تسبب بمقتل أكثر من 20 ألف شخص. أجبر الموت والدمار «يوشياما»، الذي ولد في منطقة طوكيو الكبرى، على إعادة النظر بإرثه الخاص.
 
 
بعد خمس سنوات على ذلك ترك يوشياما وزوجته العيش في طوكيو، وكانت وجهتهما تقع على مسافة تسع ساعات جنوبا في محافظة واكاياما الجبلية. استقر يوشياما وأسرته هناك في منزل مهجور بالريف. احتاجت الأسرة سنة كاملة ومليون ين ياباني «ما يعادل تسعة آلاف دولار» لترميم المنزل، ويديرون مزرعة عضوية ومقهى ودار ضيافة خارج عقارهما.  
بينما تواجه الولايات المتحدة نقصا بالمنازل، تعيش اليابان قضية مختلفة كليا: هناك تخمة في وحدات السكن الشاغرة بعموم مناطق البلاد الريفية. وسجّل إحصاء السكن والأراضي الياباني قبل خمس سنوات رقما قياسيا بلغ نحو تسعة ملايين منزل مهجور خلال العام 2018.
خلقت تلك المنازل المهجورة “مدن أشباح” في المحافظات الريفية حيث لا يمكن إشغال المنازل أو هدمها، وهناك منزل شاغر من بين كل خمسة منازل في بعض المناطق. وتعرض الحكومة حوافز مثلا منازل بقيمة 500 دولار وإعفاءات ضريبية لتشجيع المواطنين على الانتقال من المدن الى المناطق الريفية مثل واكاياما، لكن السكن الرخيص قد لا يكفي لردم الفجوة الثقافية والصعوبات الروتينية التي يخلقها الانتقال الى بلدة صغيرة.
بينما منح وباء كورونا موظفين كثيرين خيار العمل في مدن كبرى مثل طوكيو بدون العيش هناك فعليا، لكن كريس ماكموران، أستاذ بقسم دراسات اليابان في الجامعة الوطنية لسنغافورة، يعرض نظرة متشائمة للمناطق الريفية. وذكر كريس أن الشباب مترددون في الانتقال الى منازل ريفية بسبب الفرص المحدودة، والمنازل المهجورة نفسها. ويضيف أن القضية مرتبطة أيضا بمعدل الولادات في اليابان المتجه نزولا منذ السبعينيات.
 
واجهة سياحيَّة
تتكون واكاياما باختصار من مطار واحد وأربع جامعات وعدد كبير من المنازل الشاغرة. ويبلغ عدد سكان المحافظة 934 ألف نسمة بحسب «تعداد 2018» وتقع على الشاطئ الجنوبي الشرقي الوعر لليابان. وتعد «واكاياما سيتي» أكبر مدن المحافظة ويسكنها 40 بالمئة من سكانها، وتبعد ساعة و15 دقيقة عن أوساكا.
توصف المنطقة بأنها قلب اليابان الروحي ومملكة الفاكهة فيها. ومن بين أبرز أماكن الجذب السياحية هناك الينابيع الساخنة ودببة الباندا الضخمة في حديقة حيوان المدينة، وطريق الحج كومانو كودو ويعود تاريخه الى ألف سنة مضت ويمتد مسافة 70 كم تقريبا عبر الجبال والغابات والسواحل.
تعد الأرض هناك مصدر جذب بالنسبة للبعض، ومنهم يوشياما، لكن للغالبية العظمى من الناس فالمحافظة معروفة قبل كل شيء لسبب آخر وهو أنها ريفية كثيرا. واكاياما سيتي هي المدينة الوحيدة في المحافظة ذات عدد سكان يتجاوز 65 ألف نسمة.
تشعر القردة وحيوانات الغرير بالراحة عند عبور الطريق بسبب عدم وجود عدد كبير من الناس في المنطقة، ويتراجع عدد سكان المحافظة باستمرار منذ 1996. ويذكر الخبير الاقتصادي “ريتشارد كو” أن ريف اليابان شهد قبل ثلاثين سنة مضت نشاطا اقتصاديا كبيرا، وخصوصا المصانع. لكن الين الياباني استمر في الارتفاع حتى بلغ ذروته بحلول نيسان 1995، مما تسبب بتفريغ الريف وخلق منطقة متدهورة اقتصاديا شبيهة بأوهايو. يعود اتجاه الهجرة من الريف الى المدن لعشرات السنين قبل ذلك، فخلال 1960 كان هناك معدل 39 أسرة لكل منطقة ريفية في اليابان، لكن العام 2015 شهد تراجع ذلك العدد الى 15 فقط. وشهدت كل مدن وبلدات وقرى واكاياما البالغ عددها 30 منطقة انخفاض عدد سكانها بين العامين 1995 و2000، وفقا للتعداد العام الحكومي الذي ينفذ كل خمس سنوات. ومن بين جميع محافظات اليابان البالغ عددها 47، سجلت 37 محافظة تراجعا بعدد السكان في تعداد العام 2018 مقارنة مع العام 1995. والجدير بالملاحظة أن المحافظات ذات المدن الكبرى “طوكيو ويوكوهاما وأوساكا” شهدت كل منها زيادة بعدد السكان خلال الفترة نفسها.
تحتل اليابان أعلى معدل شغور منازل بين 37 دولة عضو في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، ويبلغ معدلها الوطني 14 بالمئة. ويرتفع هذا الرقم في الريف الى 16 بالمئة وأعلى من ذلك ببعض المحافظات مثل كوتشي وكاغوشيما وتوكوشيما وسجلت كلها أكثر من 18 بالمئة، وتأتي واكاياما بالمرتبة الأولى بنسبة 19 بالمئة على وجه التقريب.
 
تفاوت مناطقي
أدركت الحكومات المحلية والوطنية عدم التوازن بين ريف وحضر اليابان منذ السبعينيات. وجعل رئيس الوزراء يوشيهيدي سوغا إحياء الريف حجز زاوية برنامجه عندما تولى المنصب في أيلول الماضي. وتعهد بتحفيز اقتصاد الريف وإعادة تركيز جهود الحكومة خارج منطقة طوكيو الكبرى.
على المستوى المحلي، تسهل بعض الحكومات على الوافدين الجدد شراء المنازل في الريف عبر منح حوافز مالية، وتتراوح بين إعانات ترميم لتغطية تكاليف إعادة تصميم المنازل المهجورة الى تسهيلات ضريبية، وأطلقت حكومات أخرى مواقع ألكترونية تسجل المنازل المهجورة مقابل 455 دولارا فقط.
يقول مدير قسم التخطيط في واكاياما أن المحافظة دشنت موقعها عام 2015، بهدف علاج مشكلات كثيرة مثل تراجع عدد السكان ومعدلات الولادات وتقدم السكان بالسن والحفاظ على حيوية ونشاط المجتمع والمنطقة بأكملها.
مع ذلك، يذكر خبراء وجود عقبات كثيرة أمام حياة الريف عموما والسكن في المنازل المهجورة خصوصا. ومن بين تلك العراقيل صعوبة الوصول الى الخدمات العامة مثل المستشفيات وعدم وجود بنى تحتية للعمل عن بعد. ويفضل اليابانيون امتلاك منزلهم الخاص، أي منزل مبني حديثا، على عكس الولايات المتحدة التي تشهد إقبالا واسعا على شراء المنازل المستخدمة سابقا. ويشعر الأميركيون بالفخر عند شراء منزل قديم وإعادة ترميمه ليصبح منزل أحلامهم. لكن لا توجد ثقافة قوية لترميم المنازل ذاتيا في اليابان. ولا يقتصر الأمر على التفضيلات الشخصية والثقافية فحسب، وإنما مسألة الأمان أيضا. وكان أول قانون لمعايير البناء قدمته اليابان في سنة 1950، وعدلته خمس مرات على الأقل منذ ذلك الحين لجعل المباني القديمة أقوى وتستطيع مقاومة الضرر الناتج عن الزلازل. وبنيت الكثير من المنازل المهجورة قبل تعديل القانون في العام 1981، مما يعني أنها تعد ذات هيكل ضعيف.
لذلك يبدو الحل، ظاهريا، هو هدم المنازل وبناء أخرى جديدة على الأرض نفسها، لكن يصعب على الحكومة هدم المنازل “حتى المهجورة منها” بسبب قوانين حقوق العقارات الشائكة في اليابان، فقبل العام 2015 لم يكن يحق للحكومة الاتصال بصاحب عقار وتطلب منه ترميم منزل مهجور أو خرب، لأن المناطق الريفية فيها ارتباط متعدد الأجيال بالمنزل أو قطعة الأرض مما يصعب تدخل الدولة.
يأتي العائق الاجتماعي فوق كل هذه العراقيل الاقتصادية والمالية والثقافية، لأن المجتمع الياباني منغلق جدا. وتعد واكاياما عالما مصغرا لتحولات سكانية أكبر تحدث عبر اليابان والعالم بأسره، إذ باعت بعض البلدات الايطالية منازل مقابل دولار واحد فقط، أو حتى تمنحها مجانا، في محاولة يائسة لإعادة السكان. وتعرض بلدات في وسط أميركا الريفي حوافز مالية قد تبلغ عشرة آلاف دولار مقابل انتقال أشخاص الى هناك.