نصف قرن على انتفاضة معسكر الرشيد .. حسن سريع وذاكرة الاحتجاج

منصة 2021/07/05
...

 جمال العتابي
ليس من اليسير علي الباحث، المؤرخ، أنْ يجد شرط الموضوعيَّة متوفراً في العديد من الدراسات التاريخيَّة، وهي تتناول حقبة من تاريخ العراق المعاصر، تميزت بالتطاحن السياسي، والصراع على السلطة، قاد في كثيرٍ من مفاصله الى هدر دماء غزيرة.
بعد أكثر من نصف قرن على انقلاب 8 شباط عام 1963، يواجه محسن الشيخ راضي، القيادي في «حزب البعث» الشعب العراقي، بالاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها الجماعة الانقلابية، عبر كتابه الصادر عام 2021 (كنت بعثياً)، وكانت حادثة تسفير المئات من المعتقلين في قطار حديدي، الى نقرة السلمان، في تموز اللاهب، وأثناء النهار، هي الأبشع، من بين آلاف الجرائم التي ارتكبت أثناء تلك المدة.
يقول الشيخ راضي: «لقد عمدوا على ذلك بعد فشل حركة حسن سريع، بتسفير أعدادٍ كبيرة من الشيوعيين، وحشرهم في تلك العربات»، ويضيف الشيخ راضي، أنا عن نفسي، أدين وبشدة مرحلة 8 شباط، وأعترف أنَّ طيش الشباب ذهب بالبعثيين الى أقصى حدٍ من التهور وانتهاك الحريات، وسلب الناس لحرياتهم، وأرواحهم، ليس لشيء، سوى أنهم عارضوا الحكم وسلطة البعث.
وفق هذه المعطيات، يستدعي بالضرورة العودة الى قراءة تاريخ العراق الحديث بهدوء وتأمل بكل ما يحمله من هواجس، وصراعات، وحقائق وأوهام، وما تثيره الخطايا المكبوتة من سخط داخلي في ذواتنا، لن نذهب بعيداً، في المصادر التي شوهت الحقائق، لكننا سنعتمد مصدراً رسمياً هو تاريخ الوزارات العراقيَّة، في العهد الجمهوري 1958 - 1968، في تتبعه لحركة حسن سريع 3 تموز 1963، وأقول للأسف الشديد إنَّ الباحث في هذا الحدث، سيجد صعوبة كامنة في فرز المزيف، عن الحقيقي، وسنعود للصفحات 193، 194، 195، من الجزء السادس، نعتمد وقائعه، مع تنبيه القارئ، الى أننا تجاوزنا النعوت، التي لا تليق بوصف المنتفضين.
إلا أنَّ أفضل من كتب عن الانتفاضة ودوّن أحداثها بشكلٍ موضوعي، هو المؤرخ حنا بطاطو، في كتابه (تاريخ العراق).
 
انتفاضة حسن سريع
في خضم الأحداث التي رافقت انقلاب 8 شباط 63، وأهمها تلك الحركة التي خطط لها وقادها الجنود البسطاء في معسكر الرشيد، والتي شكلت تهديداً جدياً لنظام الانقلاب، وكادت أنْ تطيح به، لولا بعض الأخطاء التي رافقت لحظة انطلاق الانتفاضة، والتي اقترن بها اسم حسن سريع، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، من أبناء مدينة (شثاثة)، إحدى نواحي كربلاء، تطوّع للخدمة العسكرية في مدرسة قطع المعادن المهنيَّة، وكان طالباً في الصف الثاني من كلية الاقتصاد، جامعة بغداد، القسم المسائي، وتشير الوقائع الرسميَّة الى وجود نشاطٍ شيوعي معارض يقوده (محمد حبيب - أبو سلام)، بين صفوف بعض المراتب في الوحدات العسكريَّة، بعد ما يقارب خمسة أشهر من الانقلاب، وكان أساس التحرك هو القيام بعملٍ عسكري، وإنْ كان (انتحارياً)، لإسقاط النظام، أو زعزعة أركانه.
ويذكر أنَّ هذه التحركات بدأت بشكلٍ فردي، أو خيطي، بين بعض التنظيمات اليساريَّة، التي نجت من حملات التصفية بالقتل، أو بالاعتقال، وكان لثلاثة من قياديي الحزب الشيوعي (محمد صالح العبلي، جمال الحيدري، عبد الجبار وهبي) دورٌ في التنسيق مع قادة الانتفاضة، (بفشلها، توصلت السلطة الى مخبئهم، وقادتهم الى 
المقصلة!!).
 
خطة الانتفاضة
كانت خطة الانتفاضة، تقومُ على تمرد بعض الجنود في مركز التدريب المهني لقطع المعادن في معسكر الرشيد، وإمكانيَّة انضمام رفاق لهم في المعسكرات الأخرى، والتخطيط للحصول على جهاز لاسلكي من القوة الجويَّة، ومن ثم محاولة الاستيلاء على الدبابات للتوجه الى القصر الجمهوري، والاندفاع نحو الإذاعة لاحتلالها، وأخيراً إطلاق سراح المعتقلين في سجن رقم 1 من الضباط والطيارين، والمراتب، وتوزيعهم بين الوحدات العسكريَّة للسيطرة عليها.
الانطلاقة الأولى للانتفاضة بدأت في الساعة الثالثة والنصف من فجر 3 تموز 63، وتم اعتقال اثنين من قياديي الحرس القومي، حاولا التصدي لها، وهما، منذر الونداوي، ونجاد الصافي، وتمكن اثنان من قيادة البعث، من الإفلات من الاعتقال، هما وزير الخارجيةَّ طالب شبيب، ووزير الداخليَّة حازم جواد.
في ظل أجواء التحدي الشجاع لأولئك الجنود، توجهت قوة عسكريَّة، ورتل من الدبابات يقوده رئيس الجمهورية عبد السلام عارف، لمحاصرة المعسكر، والتمكن من إخماد الحركة، بعد ساعات من انطلاقها، واعتقال قادتها، وتقديمهم لمحاكمات صوريَّة، نفذت بهم أحكام الإعدام جميعاً.
 تعودُ أسباب إخفاق الانتفاضة، وفشلها في تحقيق أهدافها، الى عدة عوامل، يأتي في مقدمتها : ضعف الإمكانات العسكريَّة الميدانية، فضلاً عن غياب التنسيق مع الوحدات العسكريَّة، في معسكر الوشاش والبصرة، التي كان عليها أنْ تساعد الحركة لحظة انطلاقها، والفشل في اطلاق سراح المعتقلين من سجن رقم 1.
إنَّ أسوأ النتائج كانت تلك التي تمثلت بحشر أولئك المعتقلين في قطار حمولة حديدي مقفل الأبواب، وحشرهم فيه، في يومٍ لاهبٍ من تموز، من أجل قتلهم، ولولا فطنة وشجاعة السائق (عبد عباس المفرجي)، الذي أسرع بهم نحو السماوة لهلكوا جميعاً.
 
الانتفاضة بوصفها ظاهرة سياسيَّة
إنَّ قراءة الحدث كونه ظاهرة سياسيَّة، تعدّ أحد المعاني التي تتضمنها الانتفاضة، منها ما يؤكد تطور وعي الجندي العراقي السياسي حينذاك، وتمكنه من استثمار الغضب الشعبي، وتحويله الى فعلٍ ثوريٍ حقيقيٍ، في مواجهة الاستبداد، ومن الإنصاف أنْ نقتبسَ رأي منذر الونداوي كخصمٍ للانتفاضة لحظة اندلاعها، إذ يقول: حسن سريع وجماعته حالة نادرة، إنه وفاء شجاع لقضية، إنه من الطاقات العراقيَّة المهدرة، وأقارن اليوم بينه وبين من ملؤوا قلوبنا قيحاً (يقصد رفاقه)، فيزداد تقديري له.
وتبع ذلك قيام الحرس القومي بحملة شرسة قائمة على الشكوك والانتقام، لاعتقال المئات من المواطنين، وزجهم في السجون، وإعدام العشرات منهم.
إنَّ مجرد تفكير الجنود بتسلم السلطة، رغم كونهم جنوداً شباناً لم يواصلوا تحصيلهم الدراسي، ولم تعركهم الحياة، كفاية له دلالات كثيرة، إنَّ ما جرى في تقديري، على المستوى السياسي، ترك أثراً بالغ الأهمية، ودروساً في الوطنيَّة تستحق التأمل والمراجعة.