رجل التنوير

منصة 2021/07/06
...

جواد علي كسار
في العام 1977م وصلت إلى مدينتنا كربلاء، نسخة مهرّبة وحيدة فريدة من كتاب «خطوات على طريق الإسلام» رحنا نتداول قراءتها بالتناوب، إذ كانت تبقى عند كلّ واحد منّا ليالي معدودات، قبل أنْ تنتقل إلى الآخر.
أعترف أنَّ مقدّمة الكتاب شدّتنا عاطفياً إلى مؤلفه محمد حسين فضل الله ربما أكثر من الكتاب نفسه، و«السيّد» يحدّثنا بلغته الأدبية الرفيعة عن معاناته، وهو يكتب بعض فصول الكتاب، على أصوات المدافع في الضاحية الجنوبية لبيروت، ويمضي بوضع لمساته الأخيرة، على ضوء الشموع، وسط احتدام الحرب الأهلية في لبنان.
بديهي لم يكن هذا أوّل ما قرأته لفضل الله؛ فقد بدأت رحلتي معه أوائل سبعينيات القرن العشرين، مع كتاب «قضايانا على ضوء الإسلام» ثمّ موسوعة «مفاهيم إسلامية» وهي مجموعة كتيبات صغيرة قرأتُ منها خمسة أجزاء على ما أذكر، ومن بعده كتابه الفاخر: «أسلوب الدعوة في القرآن»، قبل أن أختم معه آخر سبعينيات القرن المنصرم، بكتابي «الحوار في القرآن» و«الإسلام ومنطق القوّة».
قلم موحٍ يعايش همومنا ويغوص في أعماق كينونتنا وما نعانيه، وأسلوب تتدفّق فيه الجمل والكلمات، وهي تتفجّر حيوية، وأفكاراً وإثارات توحي أنَّ صاحبها معنا، متّجه إلينا بروحه وقلبه ووجهه، ثمّ ب
بعقله.
كانت أمنية تملأ النفس أنْ أرى فضل الله رأي العين؛  أسأله وأحاوره وأتملى من عبقات فكره، لكني كنتُ أدفع هذه الأمانيّ وكثيراً غيرها إلى أقصى أغوار النفس، لكي يلفها النسيان، فأنى لي ولمثلي أنْ يحقّق هذه الرغبة وبيني وبينها وأنا في «عراق البطش» بُعد المشرقين!
بيدَ أنها إرادة الله التي لا قاهر لها، فقد رأيتُ نفسي في واحدة من سنين أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وجهاً لوجه أمام فضل الله. 
لقاءات تكرّرت بعد ذلك مرّات ومرّات، ودامت حتى كان آخرها في بيته ببيروت، قبل وفاته بقليل.
كان العراق وهمومه ومآسيه لها الحصة الأكبر في الحوار معه، وكان يحرص كلما نلتقي به أنْ يتابع معنا قضية العراق، يشير إلى ولادته في النجف الأشرف، وإلى حقبة حضوره في هذا البلد، وذكرياته مع أهله وعلمائه، وصِلاته مع الناس. 
قد سمعته مرّة يدلل على «عراقيته» أنه بقي وفياً أنْ يتحدّث بلهجة العراقيين، عازفاً عن لهجته اللبنانيَّة، إلا ما ندر، وهكذا فعل حتى وفاته.
أما عن الفكر وإشكالياته ولا سيّما الفكر الإسلامي فقد كانت لي معه محاورات مهمّة، لا سيّما في المنهج والتأصيل، والعلاقة مع رموز الفكر الآخر ومنهجياتهم.
أخيراً، أعتقد أن حلقة بيروت الفكرية لا تزال تختزن قدراً غير قليل من التوهّج، في ظلّ عطاء رموزها الكبرى؛ محمد جواد مغنية ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ومحمد حسن الأمين، وأضرابهم من الذوات الكريمة؛ رموز الاجتهاد والعقلانيَّة والنظر.