ذكرى مفكر!

الصفحة الاخيرة 2019/02/20
...

 جواد علي كسّار
 
لي مع الراحل معن زيادة (1938ـ 1997م) صحبة شخصية إذ التقيت معه في أحد المؤتمرات، وتحدّثنا عن الفكر العربي، وتحاورنا عن الفلسفة وجهده المتميّز كرئيس تحرير في إصدار «الموسوعة الفلسفية العربية» ونشاطه الفكري عامة لاسيّما ترأسه لمجلة «الفكر العربي» وقد أجريتُ معه حواراً نشرته يومها في صحيفة «كيهان العربي» وعندما بلغني خبر وفاته عدتُ لنشر المقال مجدّداً.
أذكره جيداً؛ حلو المعشر، لطيف، يسترسل في العلاقات وفي الحديث دون عقد، أذكر علامة على مرونته وانفتاحه، ان اللقاء معه جمعنا في مؤتمر عُقد في حاضرة مدينة قم الإيرانية أوائل تسعينيات القرن الماضي.
من الكتب التي عدتُ إليها في أحد مواسم القراءة، كتابه: «معالم على طريق تحديث الفكر العربي»، عالم المعرفة (العدد: 115)، الكويت 1987م. أوّل ما يجذبك إلى الكتاب لغته العربية المتوهجة وأسلوبه المندفع. فالكتاب يتسم بقدرة المؤلف على إنتاج الأفكار وتقديمها، فهو وإن كان قراءة عصرية للطهطاوي (ت: 1873م) والكواكبي (ت: 1902م) وأضرابهما، إلا أن أسلوب المؤلف يطغى بقدرته على توليد الأفكار، دون أن يكتفي بسرد أفكار الأسماء التي يستعرضها، وبيانها على نحوٍ ممل، كما يحصل عند البعض.
أعجبتني معالجته في الفصل الثالث لماهية الحداثة والمعاصرة، خاصة الخصائص التي ذكرها للإنسان العصري (ص: 70 فما بعد) وأبرز ما لفت نظري رغم أن البحث في هذا العنوان لافت للنظر برمته، ما ذكره من أن من خصائص هذا الإنسان موقفه من الزمان، وإدراكه لأهميته ودوره وضرورة برمجة الوقت (ص 77)، وما يتبع هذه الخصلة من انضباط الإنسان العصري بالإتقان.
كما أعجبني في خصائص هذا الإنسان تبنيه التفكير العلمي (ص 80) والخروج عن الذاتية والعشوائية، والدخول في لغة الأرقام 
وفي الكمّ والكيف ونزع القداسة عن الظواهر الطبيعية والأشياء والأشخاص، والارتكان إلى التفسير العقلائي القائم على أن لكلّ ظاهرة علة وسبباً بحاجة إلى سعي ومبادرة لاكتشافها، لكي ننعم بمنافعها.
ثراء في اللغة، وقدرة كبيرة على توليد الأفكار وإنتاجها، وإصرار على ربط الفكر بالواقع، وأسلوب متفجر حماسة وإشراقاً وتوهجاً، يعود كثير من أسبابه إلى شخصيته المبدئية النضالية. لذلك لا تجد نفسك تملّ هذا الكتاب كما جرّبت، ووجدتُ أنني لا أخرج من صحبته في كلّ مرة أعود بها إليه، إلا بمنافع وفوائد والحمد لله.
حياة هذا المفكر تتسم بالخصوبة والفاعلية العملية، بحيث كلفته مواقفه أحياناً الاعتقال والدخول إلى السجن، بيدَ أنه لم ينكفئ كما نقرأ تفاصيل ذلك في مذكراته الجميلة «الفصول الأربعة» التي اشتغل على تدوينها وهو في أحرج مراحل حياته، طريحاً على فراش المرض.
مما ذكره لي شخصياً أنه أدخل اسم السيد محمد باقر الصدر في حقل أعلام الفكر الفلسفي من الموسوعة الفلسفية، وهو موقف جليل ينمّ عن شجاعة.