ما ليس بالهوية

منصة 2021/07/13
...

  كامل عويد العامري
هل من {الخطأ} الحديث عن الهوية؟ أم الادعاء بالانتماء إلى هوية جماعية؟ هذه الأسئلة حول الهوية ليست جديدة وتستحق فحصا دقيقا ونزيها. 
منذ البداية، تسرد عالمة الاجتماع ناتالي هاينيتش بشكل وثيق سلسلة من الأعمال الحديثة التي أسهمت في هذا النقاش المحتدم في بعض الأحيان، والتي تلخصها وتوجزها في فصلها الافتتاحي، بعنوان بجرأة {الهوية ليست من اليمين ولا من اليسار}، في الوقت الذي يبدو فيه أن هذه الفروق لم تعد موجودة. 
كما يعلم المؤرخون، كانت دراسات الهوية الوطنية في فرنسا شائعة قبل وقت طويل من نشر الأكاديمي ألان فينكيلكروت (ص 11 و 80)، حتى قبل إنشاء وزارة مكرسة جزئيا للهوية الوطنية.  
أضف، قبل تأمل بيير نورا البارع في أماكن الذاكرة التي تعزز وتعيد تأكيد هذه الهوية الوطنية.
 
الهوية ليست تاريخاً
تستشهد ببيير نورا، تكرر ناتالي هاينيتش التأكيد على أنَّ فكرة الهوية الوطنية، {بالنسبة للمؤرخ، يجب تجنبها أو عدم استخدامها إلاّ مع قليل من الحذر: مقدسة أو شيطانية} (مقتبس في ص 33). ومع ذلك، على الرغم من صعوبة توضيح مفهوم الهوية الوطنية أو تعريفها أو تطبيقه، إلا أنه لا يمكن تجنبها أو قتلها أو تقليصها أو ربطها بأكثر الأفكار تناقضًا. حول هذه النقطة، تعدُّ ناتالي هاينيتش شديدة الدقة: {لكن ليس لأنَّ الهوية الوطنيَّة متغيرة ومبنية تاريخياً بوصفها وهما من دون أي اتساق: لا الوهم ولا، على العكس، الواقع الموضوعي، إنها تمثيل عقلي - تمثيل مشترك على نطاق واسع، تمامًا مثل القيم (والأمة هي بالفعل قيمة بحد ذاتها طالما أنها موضوع يخضع للتقييم)} (ص 32)
تحاول الفصول الخمسة الأولى تحديد مفهوم زائل، ناهيك عن الزلق. إنَّ العرض عبر مناهجية اقترحتها ناتالي هاينيتش مستمد من التاريخ، وعلم الأعراق، وحتى التحليل النفسي، وأفضل ما في علم الاجتماع الأميركي، من جورج هربرت ميد إلى إرفينج جوفمان، للتمييز ليس فقط الهوية الفردية والهوية الجماعية (ص 80)، ولكن أيضًا لتوضيح الأبعاد الثلاثة المحتملة للهوية المشتركة. في بعض الأحيان، تستخدم الصياغات السلبية، كما هي الحال في عنوان الكتاب، وتناقش بأنَّ {الهوية لا تتكون فقط مما يدركه الشخص أو يقدمه لنفسه ولكن أيضًا مما يحيل إليه الآخرون} (ص 67). إنَّ التعبيرات والتفاصيل التي تواكب أشكال الهوية الأخرى (حقيقية، خيالية، رمزية) هي فقط مفيدة لفهم جيد أن الهويات - الفردية والجماعية - تعددية ومبنية بناءً اجتماعياً (ص 76)
وهي تطيل التأمل في أعمال نوربر إلياس وكلود دوبار، تركز في الفصل السادس على التأكيد على أنه لا توجد هوية من دون أزمة هوية (ص 83). إنها إحدى المساهمات الرئيسة لهذا الكتاب: حيث تؤكد ناتالي هاينيتش أنَّ الهوية سيكون لها {خاصية أساسية، [...] وهي لا تتجلى إلا عندما تطرح مشكلة} (المرجع السابق). لكن الفصل السابع يطمئننا من خلال الإشارة إلى أنَّ مشكلات الهوية، مثل الجروح القديمة، يمكن أحيانًا إصلاحها، لا سيما عن طريق العلاج أو من خلال مسار مصاحب (ص 97). ومع ذلك، فإنَّ هذا الفصل الأقصر لا يستنفد جميع الامتدادات الممكنة. قد يميل المرء تقريبا إلى استقراء وإضافة حالات أخرى من {الهويات المجروحة} بين الفئات الاجتماعية الموصومة بالسمعة المشوهة على نحو جماعي والتي لم يتم ذكرها هنا. في هذا الكتاب توجد حقا بعض الفقرات الموحية.
 
الهوية والأزمات
فحص العقبات المختلفة التي تحول دون فهم صحيح لمفهوم الهوية، يجعل القبول باقتراح تعريف لماهية الهوية ممكنا، إذ (هي نتيجة جميع العمليات التي يتم من خلالها تحديد العلاقة (المنطقية) بين المسند والموضوع.)
هذه مجرد فكرة مجردة، وقد يعترض البعض. ولكن إذا قمنا بتفكيك كل من المصطلحات الواردة في هذا التعريف، فسنرى أن الأمور تتضح أكثر من خلال:
أولا {نتيجة كل العوامل} كما رأينا في الفصل الثاني، فإنَّ الهوية ليست مادة ميتافيزيقية موجودة بشكل مستقل عن التمثيلات التي يقوم بها الفاعلون، حتى لو كانت هذه التمثلات مبنية على عناصر موضوعية - مادية، فسيولوجية، وما إلى ذلك - والتي ليست متطابقة بالضرورة. - ما يمنحها المصداقية والاستقرار والتوافق. ليس هناك ما يدعو في هذه الظروف إلى استبعاد استخدام هذه الفكرة على أساس أنها لا تتوافق مع {واقع}: فهي تتوافق مع مجموعة من التمثلات، بشكل أو بآخر مدمجة وموضوعية ومؤسسية - وهذا أكثر مما يكفي لجعلها أداة مشتركة للتوجيه في الواقع. وبالتالي، فإنَّ الهوية هي ظاهرة مفتوحة ومتقدمة وقائمة على العمليات: لهذا السبب، فإن المنظور المناسب لتفسيرها هو جزء من علم اجتماع بنائي وليس علم اجتماع أساسي.
{وإجمالاً} ثانياً: كما رأينا في الفصل الخامس، فإنَّ الهوية ليست أحادية البعد بل متعددة الأبعاد، لأنَّ نقاط دعمها متعددة، سواء كانت شخصًا ملموسًا - تتميز بالجنس والعمر والمهنة والدين والجنسية، وما إلى ذلك - أو كيانًا مجردًا مثل الأمة - يتميز بحدوده، ولغته، وتاريخه، وعلمه، وعاداته، وقوانينه، وما إلى ذلك. وهذا يعني أنه واقع معقد، ومتعدد، ومفصَّل: لهذا السبب، فإن المنظور المناسب للإبلاغ عنها هو منظور علم الاجتماع التعددي غير الاختزالي.
ثالثًا، العمليات: الهوية لا تُعطى، بل تُنتج ({مُصنَّعة}، كما يقول أتباع البنيوية النقدية، من دون رؤية أن التصنيع هو بالضبط ما يجعل التمثيل أو المؤسسة قوياً، وليس ضعيفًا. إنها قبل كل شيء منطوق، مثله مثل أي تمثيل عقلي مشترك؛ يتم تمثيله من خلال المعاملة التي نعامل بها شخصاً (طريقة النظر، والترحيب، واللمس) أو من خلال كيان مجرد (في حالة الأمة، وطرق الغناء، والوقوف، وتقديم الذات أمام رموز)؛ ويرمز إليها بأشياء (مكان على الطاولة، قطعة ملابس، علم، إلخ)؛ وأنشأت بقرارات إداريَّة (دفتر العائلة، بطاقة الهوية، الاتفاقيات الدولية، إلخ). ويمكننا أيضًا أن نقول إنها مستثمرة بشكل أو بآخر، لأنَّ العمليات التي {تجعل} الهوية تمر عبر مظاهر عاطفيَّة (على سبيل المثال، البكاء أثناء الاستماع إلى النشيد الوطني، مما يدل على ارتباط الأشخاص بها. هذا هو السبب في أننا نتمكن من الوصول إليها ليس من خلال افتراض حالة مجردة ولكن من خلال ملاحظة الإجراءات الملموسة، في الموقف: فالمنظور المناسب للإبلاغ عنها هو من اختصاص علم الاجتماع البراغماتي، الذي يركز على الإجراءات في المواقف الحقيقية. رابعاً، المسند: كما رأينا في الفصل الرابع، يمكن التعبير عن المعايير التي تبني الهوية في شكل محددات مختلفة. يمكن أن تكون أسماء مناسبة للتعريف الشخصي (الاسم الأول واسم العائلة)؛ الأسماء الشائعة للتعريف الجماعي (مثل {رجل} أو {امرأة}، {مدرس}، {كاتب})؛ صفات للمؤهلات ({شاب} أو }كبير في العمر} أو {كبير} أو {صغير})، أو خواص غامضة بين الأسماء والصفات ({الفرنسية}، {اليهودية}، {الباريسية} إلخ.). حتى الأفعال يمكن استخدامها كمسند للهوية: {أنا أكتب}، سيرد الكاتب على الشخص الذي يسأله عما يفعله في الحياة - وبالتالي تحويل النشاط إلى هوية. يسمح لنا هذا البعد اللغوي الدقيق للهوية بتطبيق منظور نحوي عليها: دراسة الهوية هو تسليط الضوء على أسس نوع من القواعد النحوية للهوية. بعبارة أخرى، من أجل عادة صياغة قول مأثور مشهور: الهوية مبنية مثل اللغة.
خامسا {المتأثر}: بعيدًا عن كونه تجربة ذاتية، بعد أن يواجه شخص ما نفسه، فإن الهوية لها معنى فقط - حتى في أكثر مراحلها الداخلية من الإدراك الذاتي - فقط من خلال الكلمات والصلات مع الآخرين، مع الذات - صورة يرسلها للآخرين ويعيدها الآخرون. إن تعيين المسند هو نقل تمثيل يمتلكه المرء عن العالم، من أجل مشاركته. 
وهكذا، حتى عندما تكون هذه المشاركة هي هوية الفرد، فإن الهوية ليست أبدًا ظاهرة فردية بحتة: أي أن المنظور المناسب لتفسيرها هو منظور علم الاجتماع التفاعلي. وأخيرا {الكائن}: يجب فهم هذا المصطلح بالمعنى الأكثر عمومية، مع العلم أنه يمكن الإشارة إلى شيء ما (هوية المنزل، التي يتم استيعابها من خلال المسندات - {كبير}، {غال}، {قديم} - التي تسند إليه) - وإلى كيان مجرد (هوية أمة) أو شخص، أي بمعنى الفاعل.  ولكن على عكس الشيء أو الفئة، فإن الأخير يتمتع بخصوصية كونه يتمتع بقدرة على خاصية تمييز العلاقة الانعكاسية، مما يمكّنه من التنبؤ الذاتي - أي إدراك نفسه بقدر ما يقدم نفسه - وأن يكون لديه رأي بشأن التسميات المحالة إليه من ذاته. بمجرد أن يصبح الفاعل موضوع عملية الهوية، فالأمر ليس مجرد مسألة تحديد حالة موضوعية ولكن أيضًا وقبل كل شيء، فهم كيف يعيش الفاعل: إنه في الواقع الشعور بالهوية على المحك. 
ويصبح من الممكن تحليل العلاقة التي يحتفظ بها مع هويته الخاصة، لتسليط الضوء على ظروف رضاه أو، على العكس من ذلك، على عوامل أزمته: المنظور المناسب لتفسير ذلك هو إذنْ علم الاجتماع الشامل.