العراقي والوالي

الصفحة الاخيرة 2019/02/22
...

حسن العاني 
يُحدِثنا التاريخ, إنَّ (الامبراطوريَّة) العثمانيَّة أيام احتلالها للعراق قامت بتقسيمه الى عدة ولايات, وكانت مشكلة هذا الاحتلال, أنَّه كلما تقدم العمر به ازداد تخلفاً وجهلاً, ومعروف إنَّ الدولة العثمانيَّة باتت في عقودها الأخيرة تدعى على المستوى السياسي بـ"الرجل المريض".. فكيف يكون الحال بالنسبة للبلدان الخاضعة لسيطرتها- ومن بينها العراق- سوى الفقر والجهل والجوع وسيادة الخزعبلات والخرافات... وقد حفلت هذه المرحلة من تاريخ العراق بعجائب الأمور وغرائب الحكايات, فمما يروى إنَّ عراقياً من ولاية بغداد, يسكن في بيت طيني, مساحته أقل من خمسين متراً وليس فيه سوى غرفة واحدة, يقطنها مع زوجه وأبنائه الأربعة ووالده العجوز, ولم يكن للرجل عملٌ محددٌ, فحيثما توفرت له فرصة عمل أياً كانت توجه إليها, ولكنَّ المشكلة أين هو العمل وأين هي الفرصة في زمن الحكاية الذي يعود الى القرن التاسع عشر, على أنَّ مشكلته الكبيرة والحقيقيَّة تكمن في الغرفة الوحيدة التي ينام فيها سبعة أشخاص ويأكلون ويطبخون ويستحمون, ولذلك استقر رأيه على تقديم شكوى الى الوالي والتظلم بين يديه وطلب المساعدة لتجاوز محنة الغرفة.
الوالد العجوز بحكم عمره وفكره التقليدي الموروث, حاول منع ابنه لأنَّ (الشكوى لغير الله مذلة), وقد أعاد هذه العبارة على مسامعه غير مرَّة من دون جدوى, وهكذا قابل الرجل الوالي, وبسط أمامه وضعه المادي ومشكلة الغرفة وهو يبكي, حتى إذا انتهى سأله الوالي [يارجل ... صحيح ان مساحة دارك ضيقة, ولكن ما الضير لو قمت بتربية بعض الدواجن في ركن صغير من أركان الحوش؟] ردّ عليه المواطن [حفظ الله مولانا الوالي, لولا الدواجن لهلكت جوعاً, عندي نعجتان وعشرون دجاجة فوق سطح المنزل] قال الوالي وقد ارتسمت علامات البهجة على وجهه [عفارم يارجل عفارم], وفيما كان المواطن البغدادي قد استبشر خيراً وغمرته السعادة وهو يرى بشاشة الوالي وابتسامته الرقيقة, كان الوالي قد خلا الى نفسه وغرق في تفكير عميق استمر خمس دقائق كانت أطول من خمس سنوات على المواطن, حتى إذا فرغ من (صفنته), خاطب الرجل بلغة أمرية [اليوم تذهب الى بيتك وتقوم بإنزال الدجاج والنعاج من السطح, وتتركها تعيش معكم في الغرفة] وحين أراد المواطن الاعتراض على هذه المصيبة, نَهَرَهُ بحركة من يده وأكمل كلامه [وتأتي الى مقابلتي بعد أربعة أيام وسأجعل الجندرمه يراقبون البيت, ولو بلغني انك خالفتَ أمري سأدفنك حياً.. هيا انصرف].
كانت أربعة أيام من العذاب الذي لا يوصف, لم يعرفوا فيها نوماً ولا راحة, وتولى الرجل شرح الموقف للوالي وهو يبكي بكاءً مراً, عندها طلب منه أنْ يعود الى منزله ويعيد النعاج (فقط) الى السطح, ويأتي لمقابلته بعد أربعة أيام, وفي المقابلة الجديدة شكر المواطن الوالي عظيم الشكر لأنَّ الحال تسير نحو الأفضل, عندها طلب منه العودة الى منزله وإعادة الدجاج إلى مكانه, والمجيء الى مقابلته في الغد, وحين حضر المواطن في الموعد وهو يطير من الفرح سأله الوالي [هل تطلب شيئاً آخر؟]. ردّ عليه [شكراً مولاي.. الطمع ليس من شيمتنا]. ومن يومها أوصى المواطن- على ذمة الحكاية- أبناءه وأحفاده بأنَّ الشكوى لغير الله مذلة.. وما زالت وصيته سارية!!.