ميادة سفر
تصدرت الرواية سلم الأنواع الأدبيَّة في العقود الأخيرة، حتى كدنا ننسى القصة القصيرة والشعر وسواها من فنون أدبيَّة كان لها روادها ومبدعوها، ولم يقتصر انتشار الرواية على كتابها الأوائل بل إنَّ كثيراً من الشعراء والقاصين خاضوا غمار الكتابة الروائية لأسباب كثيرة، أليست الجوائز الأدبية تركز أكثر على الرواية، مغدقة أموالاً طائلة على الفائزين بها؟!.
إلى هنا يبدو الأمر مقبولاً ومتقبلاً من النقاد والقراء، فلا بأس أن يكتب شاعر روايته إن وجد لديه تلك الملكة التي تحتاجها حبكة الرواية، ليقدم بذلك إبداعاً مضافاً للثقافة، غير أنّ السنوات الأخيرة أفرزت ما عرف بتعليم الأدب والكتابة الأدبية الإبداعية، حين ظنّ البعض أن الكتابة يمكن تعلمها كأي علم آخر قائم على التلقين والحفظ واتباع قواعد ومعادلات رياضية ربما، غافلين عن الأساس الأول الذي لطالما ارتكزت عليه الكتابة الإبداعية ألا وهي الموهبة والملكة الفكرية، فضلاً عن الثقافة المكتسبة من الكثير والكثير من القراءات، فلكي تكون كاتباً جيداً لا بدّ أن تكون قارئاً جيداً ونهماً.
إذاً.. أقيمت الدورات والندوات وألقيت محاضرات تتحدث عن أصول الفن الروائي، وأدلى بعض الروائيين بآرائهم ونصائحهم للمقبلين على الكتابة والراغبين بها، من خلال لقاءاتهم الصحفية أو عبر كتب ومؤلفات كثيرة قدموا فيها خلاصة تجربتهم في مجال الكتابة، فكانت زاد وزوادة الجيل الجديد من الكتاب ممن امتلكوا ناصية الموهبة الإبداعية، وتمكنوا من تصحيح مساراتهم الكتابية عبر الاستفادة من خبرات من سبقوهم.
لكنّ البعض الآخر استسهل الأمر وأبى إلا المشاركة في هذا السباق الماراثوني، والغوص في كتابة الرواية فغرقوا وأغرقوا معهم قارئاً ربما كانت مستجداً في عالم الكتب، فلم يعد للكبار أمثال ديستويفسكي وتولستوي وبلزاك وماركيز وغيرهم من أعلام الأدب أي أثر ولا وجود، بل زاد في الطنبور نغماً.. أنّ هذا القارئ المستجد يربأ بنفسه عن قراءتهم مفضلاً أولئك الذي غصت المكتبات بهم وتصدروا قوائم الـ «best seller}، من دون أي رادع فكري وأدبي.
حين غاب أو تراجع النقد البناء النزيه تكاثرت تلك الأعمال والأسماء البعيدة كل البعد عن الإبداع، فضلاً عن الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي والتي استخدمها البعض كمنصات للشهرة والانتشار، ألم يصادفك أحدهم وقد سبق اسمه لقب «الروائي» وأنت تحاول عزيزي القارئ أن تتذكر عنه شيئاً؟! لكن عبثاً تحاول.. لربما أقرب المقربين له لم يسمع به..
في لقاء مع صحيفة الخليج يقول الروائي السوداني أمير تاج السر إنّ «هذا الإقبال على كتابة الرواية يخيفني من أن تحدث لها هزة، كما حدثت هزة الشعر، فالشعر أسهم أهله في انهياره...» أيكون خوف أمير تاج السر في محله؟ هل يجب حقاً أن نقلق على الرواية من هذا الكم الهائل وغير المنضبط من الإصدارات؟ أم أنّ الساحة تتسع للجميع، والزمن كفيل بغربلة الأعمال ورمي السيئ منها في سلة المهملات؟.. ويحق لأي شخص أن يجرب حظه في هذا المضمار..
أسئلة كثيرة تشكل هاجساً لقارئ يبحث عن الأجود الذي يقدم مادة فكريَّة وإبداعيَّة تشكل قيمة مضافة لجعبته الثقافيَّة، تساؤلات لن تجد جواباً لها أقله في الوقت الراهن.. ويبدو أنّ علينا أنْ نعول على الزمن والوعي والنضج الفكري لدى الكاتب أولاً والقارئ بالدرجة الثانية، للحفاظ على سوية جيدة متصاعدة بإمكانها الارتقاء بالذائقة الثقافيَّة، لعلنا نقرأ إعلان اعتزال أحد هؤلاء المتطفلين قائلاً: ّ «الرواية ليست مهنتي».. وإلى ذلك الحين سنتحمل مرغمين أقلاماً نشازاً كثيرة.