وداعاً للأحيائي والتطبيقي ومرحباً بالعلمي والأدبي

ريبورتاج 2021/07/25
...

   علي غني 
حسناً فعلت وزارة التربية عندما قررت مراجعة تجربتها التي اسمتها تنوع التعليم (الاحيائي والتطبيقي)، التي لاقت منذ بداية تطبيقها رفضاً واعتراضات عديدة من المختصين بالعملية التربوية، بل خلقت صعوبات على مستوى القبول المركزي، كما ضيقت الاختيارات لدى الطلبة في قنوات القبول المركزي، وافقدتهم الرغبة في اختيار الكلية المناسبة لتطلعاتهم، فما هو البديل؟، وهل ستقتنع وزارة التربية بما تقوله الادارات واصحاب الشأن من الهيئات التدريسية في هذا التحقيق ولمن ستكون كلمة الفصل؟.
بداية التجربة
بدأت تجربة الاحيائي والتطبيقي منذ العام الدراسي 2015 - 2016 في المدارس الاعدادية للفرع العلمي من الصف الخامس العلمي، وقد اثارت هذه التجربة جدلا واسعا بدءا من المدرسين، وانتهاء بأولياء الامور، ما دفع مجلس النواب العراقي بعد سنوات من تطبيقها الى الطلب من وزارة التربية بالغاء نظام التعليم (الاحيائي والتطبيقي) في المدارس الثانوية لعدم ملاءمته للعملية التعليمية في العراق، وذلك بتوجيه رسالة للوزارة عن طريق مجلس النواب، وجاءت أسباب الالغاء بالوثيقة المرسلة للوزارة، كونه سبب ارباكا في العملية التعليمية، وأحدث اشكالات في القبول المركزي اثناء المدة التي طبقته فيها الوزارة، لذلك من الضروري اعادة العمل بالنظام المدرسي السابق (علمي، أدبي).
 
غير مدروسة
تجربة الاحيائي والتطبيقي تعد من التجارب غير المدروسة مسبقاً، هذا ما قاله مدير اعدادية السيدية العلمية للبنين دريد حسين علوان الجبوري، لا بل تم تطبيقها من دون التهيئة لها مسبقاً، اذ وقع بها حيف على طلبة الفرع الاحيائي، فسألته فورا كيف؟ فأجاب: ان فرصهم بالقبول في الجامعات الحكومية قليلة جداً ولا تناسب طموح الطلبة الأذكياء، فهل من المعقول أن يكون معدل الطالب 96 % في الامتحان الوزاري ولم يتم قبوله في كليات المجموعة الطبية؟، ويتم قبوله في المعهد الطبي الفني او في كلية العلوم او ادنى من ذلك ما سبب احباطاً كبيراً لدى الطلبة، فاضطر أغلبهم للذهاب الى الكليات الاهلية وفع قسط سنوي مقداره  (8 ملايين دينار) لكي يتم قبولهم في كليات الطب، في حين أن طلبة السادس التطبيقي من يحصل على معدل 75 %  منهم يقبل في كلية الهندسة، فأين الانصاف في الموضوع؟!.
اضف الى ذلك والكلام (لمدير اعدادية السيدية العلمية)، الارباك الذي يحدث لدى إدارات المدارس من حيث توزيع أعضاء الهيئة التدريسية بين الفرعين الاحيائي والتطبيقي، لذا يفضل الرجوع الى الفرعين العلمي والادبي فقط، حتى يكون لكل مجتهد نصيب في العملية التربوية، ويكون هناك تنافس منصف لجميع الطلبة.
 
تشتت المعلومات
ذهبت الى الاشراف التخصصي بعد سماعي رأي الادارات المدرسية التي لخصها لي مدير اعدادية السيدية العلمية، فوجدت المشرف الاداري في تربية الكرخ الثانية الاستاذ فيصل مدلول، الذي فند التجربة من نواحٍ عديدة، قائلا: اولا من الناحية الفنية فان منهج الاحيائي والتطبيقي يعده المدرسون مشتتا للمعلومات، كما انه خلق تمايزا بين الهيئات التدريسية بحيث اصبح المدرس الذي يدرس المرحلتين لديه مشكلة من حيث مفردات المنهج وطريقة التدريس غير المستقرة، فضلا عن اختيار مواضيع غير مفيدة للطلبة، لا سيما التطبيقي.
واقول لك حقيقة (الكلام لمدلول) انه منهج يقيد اختيار الكليات التي يروم الطالب الالتحاق بها بعد التخرج، بدليل ان خريج القسم الاحيائي، حددت كلياته ضمن المجاميع الطبية والمعاهد كذلك.
كما انه استهلك موارد مادية كبيرة من الوزارة، بسبب طباعة الكتب لكلا الفرعين، ما اثقل ميزانية الوزارة، وكان يمكن الافادة منها في انشاء وبناء مدارس اضافية لتغطية التزايد المتنامي لاعداد الطلبة.
وتابع مدلول كلامه: اما من الناحية الادارية، فعندما يكون لديك اكثر من فرع في الناحية العلمية فذلك يستوجب وجود مراكز فحص اضافية، اذ اصبح لدينا ثلاثة مراكز فحص (كونترول)، واحد للدراسة الادبية، واثنان للدراسة العلمية بفرعيها الاحيائي والتطبيقي، وهو استهلاك للموارد المادية المخصصة للوزارة، لأنها تستدعي وجود بنايات خاصة بهذه المراكز مع تأثيثها، فضلا عن مديري المراكز ومعاونيهم واعضاء المراكز ولأكثر من دورين، وقطعا فيها صرف مبالغ مالية لا يستهان بها، فاحيانا يتجاوز  عدد اعضاء المركز الواحد (30)  عضوا مع ادارة المراكز بما لا يقل عن (3) مضروبة في مبلغ 4 ملايين دينار للدور الاول وثلاثة للدور الثاني فعند استخلاص النتيجة ستلاحظ مقدار ما ينتج عنه مبالغ كبيرة.
تضاف اليها مبالغ المدرسين الفاحصين في كلا الفرعين الاحيائي والتطبيقي وواضعي الاسئلة والاجوبة، فضلا عن النثرية المخصصة لهذه المراكز، واستهلاك الوقود ولوازم تجهيز المراكز من الحراسات وموظفي الخدمة والاستهلاك من الاجهزة المكتبية  كالطابعات واجهزة الاستنساخ .
 
مراجعة واستنتاج
يرى الدكتور قيس اسماعيل الكلابي المدير العام لتربية بغداد الكرخ الثانية،  أن من المهم الارتقاء بالعملية التربوية حتى تتناسب مع متطلبات العصر، على أن تتم مراجعتها بين فترة واخرى، آخذين بنظر الاعتبار تطورات العملية التربوية وتطور النظريات والآفاق الجديدة التي تقع دوما هنا وهناك، باعتبار أن العالم قرية صغيرة بنظر(العولمة)، بل غرفة صغيرة، كما يطلق عليها البعض، وما يحدث في جانب من الكون يلقي بظلاله على الجانب الاخر، علميا واداريا وثقافيا واقتصاديا، وتعد تجربة التعليم مهمة جدا، وقد لوحظ ان العديد من الدول ثبتت موضوع التخصصات الدقيقة بوقت مبكر من الدراسة والتعليم بمراحل تنسيق، وقد نجحت فيها بعض المجتمعات والامم.
 
الظروف المناسبة
وهذا ما دفعنا قبل سنوات الى تبني موضوع الاحيائي والتطبيقي، وبعد سنوات من التطبيق (والكلام للكلابي)، تبين لنا، ان الفكرة من حيث التطبيق والنظرية، قد تكون ايجابية لو توفرت لها الظروف المناسبة، كما ان التجربة يفترض بها ان تميز بين اتجاهات الطلبة المستقبلية، كما ان نجاحها أو فشلها يعتمد على الظروف المحيطة، سواء كانت اجتماعية او اقتصادية او تربوية، وتقودنا هذه الملاحظات الى التساؤل، هل نجحت التجربة أو فشلت في العراق؟، وحتى اجيبك عن هذا السؤال (والكلام لمدير عام تربية الكرخ الثانية)، يستلزم منا معرفة أولا هل كنا مستعدين لهذه التجربة، كوزارة، وقوانين وقناعة اجتماعية ايضا، وهل كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مستعدة لتقبل مخرجات وزارة التربية وفق هذا النظام.
 
ثقافة راسخة
الامر معقد قليلا، هكذا يصفه الكلابي، لانه يعتمد على ثقافة راسخة في عقل الفرد العراقي، لاسيما ولي الامر أو الطالب ذاته، وهذا جانب نفسي لابد من الغوص فيه، فاذا ما اجرينا مقارنة بين اسرة عراقية واخرى اوروبية، فالعراقية تدخل في عقل ابنها الطالب، انه لابد أن يكون طبيبا في المستقبل، اما الاوروبية، فلا تفرض تخصصا محددا على ابنها، بل تراقب سلوكه مع التدقيق الشديد، عندئذ سيكون لهم تصور عن التخصص الذي يرغبه لتحديد مستقبله، فقد يكون رساما او رياضيا أو اقتصاديا، فيتم تشجيعه على ذلك، لذلك نجحت عندهم التجربة، لان الطالب في هذه المجتمعات المتطورة لديه خارطة طريق أو خارطة عقل واضحة، وهو يعلم ماذا يريد؟ وبماذا يهتم؟، واسرة تشجع على ذلك، في حين أن المجتمع العراقي يضع خارطة يفرضها على الطالب بمسارات قد لا يرغبها ولا يفقه بها شيئا، وقد يرغب في الجانب التطبيقي وتخصصاته الهندسية، ولكن اسرته تطلب منه قسرا أن يذهب الى الاحيائي وتخصصاته الطبية، وهذا سبب  فشل التجربة، فضلا عن أن فرص العمل بحسب ما يفهم الطالب على ضوء واقعنا اليوم تتوافر للجانب الاحيائي اكثر من الجانب التطبيقي، لذلك يندفع الطلبة باتجاه الاحيائي باعداد كبيرة حتى لو كان مستواهم لا يناسب هذه التخصصات على امل أن يحصلوا على التعيين مستقبلا!، لذلك وجدنا ان هناك اعدادا كبيرة من الطلبة وبمستويات دون المتوسط يذهبون باتجاه الاحيائي واعدادا اقل تذهب الى التطبيقي، وهذا سبب لنا ارباكا في التجربة، أما المعضلة الاخرى فهي وجود مشكلات لوجستية في نجاح هذه التجربة.
 
مدارس متخصصة
ولا اخفيك القول، وحتى تنجح هذه التجربة نحتاج الى مدارس متخصصة تتضمن تخصصات احيائية لمختبرات احيائية بصفوفها ومدرسيها واداراتها، تختلف عن المدرسة التي تختص بالجانب التطبيقي، وهذا بصراحة لم يتم العمل به، بل اننا خصصنا مدارس (للتطبيقي والاحيائي) من المدارس الموجودة فعلا، وواجهنا مشكلة اخرى هي مشكلة توفير الملاكات ذات التخصصات المطلوبة، فعند فتح مدرسة تتضاعف الحاجة الى التخصصات الدقيقة، وهي شحيحة، كالفيزياء والكيمياء، وهذه المشكلة غير موجودة سابقا، عندما كان التخصص (علميا او ادبيا) ووجود التخصص الواحد يفي بالغرض، ولكن عندما نفتح مدارس متخصصة نحتاج الى ملاكات اكثر وهي غير متوافرة.
 
غير مستعدين للتجربة
الرأي الاخير(كما يقول الكلابي): ان تطبيق هذه التجربة الجيدة مستقبلا أمر فيه العديد من مقومات النجاح، ولكن حتى تنجح لابد من توافر اساسيات النجاح التي ذكرناها (في بداية اللقاء)، كما يجب ايضا توافر ثقافة اجتماعية لدى اولياء الامور، واعطاء الفرصة للطالب حتى ينظر في اعماق قلبه ويتلمس مساراته المستقبلية من دون تدخل من الاخرين، كما لابد من توافر مدارس جديدة متخصصة في مختبراتها او ملاكاتها، ويمكننا ايضا أن نذهب الى التخصصات الفنية مثل الفنون الجميلة، كما يمكننا أن نذهب الى تخصصات علمية او ادبية، لكننا اليوم ونتيجة للظروف الاستثنائية ما زلنا غير مستعدين لهذه التجربة.