ذكريات مكة

منصة 2021/07/27
...

جواد علي كسار
أحلى ما في مكة بعد زيارتها، هو ذكرياتها. كلّ واحد يغترف من هذه الذكريات بقدر ما كان اختزن من معالمها الكبيرة، وأماكنها البهيّة وتأريخها، والأيام التي أمضاها طائفاً في البيت الحرام، ماراً متعبّداً بين الركن والمقام، متقلباً في منى والمشعر وعرفات، زائراً مساجدها العظيمة؛ الخيف ومزدلفة والجنّ والشجرة والفتح والإجابة والبيعة، متأملاً العبر ودروس التأريخ في دار الأرقم والحديبية، متبركاً بأعاظم الرجال والنساء في مقبرة المعلّى كخديجة وأبي طالب، مستبصراً قصة الدعوة بين المبعث والمآل؛ مع دار مولد النبي وشعب أبي طالب وغار ثور، مرتوياً بماء زمزم، وخاتماً تأملاته بجبل النور وغار حرّاء؛ شلال الهداية المنهمر منذ لحظة: «اقرأ» والمتدفّق أبد الدهر حتى قيام الساعة!
للذكريات مع مكة سجلّ مفتوح مع بيت الله منذ مئات السنين، كتب عنها القريب والبعيد، في الماضي والحاضر، من العرب والعجم وصنوف المسلمين جميعاً؛ بما يكوّن مكتبة هي من أعظم المكتبات التي عرفتها البشرية في عمرها، عن مدينة هي مكة، وشعيرة هي الحج.
من أكبر ما انتفعتُ به في حياتي من هذه الذكريات، كتاب؛ بل قل موسوعة محمد حسين هيكل: «في منزل الوحي». أيضاً الكتاب التأملي الرائع: «مكة في ضمير المسلم» وقدرات مؤلفه علي الكوراني، في المزج المذهل بين المشاهد والتأريخ، وبين الإدراك العقلي والشعور 
النفسي. أضف إليهما في المسار نفسه، كتاب: «ذكريات على تلال مكة» للسيدة الشهيدة آمنة الصدر.
كذلك من هذه الذكريات الباهرة، كتابان لشقيقين أوروبيين لنا في هذا الدين، أنعم الله عليهما بالإسلام، فكتب الأول محمد أسد تجربته، وأودعها كتابه: «الطريق إلى مكة»؛ ليجدّد من بعده مراد هوفمان هذه التجربة المعنوية الراقية، ويدوّنها بكتابه: «رحلة إلى مكة».
المفارقة التي تتجدّد في موسم الحج كلّ عام، هو اختفاء مشاركة القلم العراقي بتدوين هذا اللون من الذكريات، فمهما ضغطتُ على ذاكرتي انتهى المشهد أمامي إلى غياب أو شبه غياب للمفكّر والمثقف والأديب والإعلامي العراقي، عن هذا المضمار من الكتابة الراقية، من دون أنْ أعثرَ على تفسير مقنع لهذه 
المفارقة!