الموت العذب.. الوجه الآخر لثوريَّة سيمون دي بوفوار

منصة 2021/07/29
...

  نهضة طه محمد
في الأيام القليلة التي قضتها مع والدتها في المستشفى، تفاجئنا سيمون دو بوفوار بالكيفيَّة التي يمكن أن تُسرد حكاية مرافقة لرحلة موتٍ بطيء، لتغدو حكاية مشحونة بالعذوبة والمشاعر المرويَّة بأسلوبٍ جياش يستثير مشاعر الإعجاب والمتعة بتدفق السرد وملاحقة الروي بعيداً عن الشعور بوحشة الموت المتربص. فاستحق النص أنْ يصفه سارتر بأنه من أفضل ما كتبته دو بوفوار على الإطلاق، لأنه كان وثيقة مهمة عن العلاقات الإنسانية. 
في هذا الكتاب الذي صدر مترجماً عن الفرنسية، مؤخراً عن دار المدى وحمل عنوان {موت عذب جداً} بترجمة كامل عويد العامري، تستحضر الكاتبة عمليات القتل الرحيم والإرهاق العلاجي المصاحب للألم للمرضى الذين فقدوا أي أمل في العلاج. 
كما أسهمت في هذه السيرة في إلقاء الضوء الكاشف على حياة الممرضات الخفية وطرق اهتمامهن بالمرضى وما يسببه لهنّ ذلك من شعور بالمذلة والاشمئزاز بينما يحرصن على إظهار مشاعر الود والصداقة. 
 
الحياة لن تكون هكذا
لقد كانت سيمون تغضب من لا مبالاة الأقارب عندما يعاني المرضى من عذابٍ طويل، لكنها تعثرت في أول اختبار. لقد تخلت عن مبادئها الأخلاقيَّة كما تقول وهزمتها المبادئ الاجتماعيَّة. فلمنْ كان الموت عذباً يا ترى؟ هل هو للكاتبة التي ألقت شيئاً من حمل أثقل كاهلها بانشغالها عن والدتها؟ أم هو عذب بالنسبة للأم التي رحلت بشكل هادئ يتساوق مع شخصيتها غير المفصحة عن كوامنها؟ أم أنه يتعلق بفلسفة خاصة بالموت ذاته؟
قد يكون التكنيك المستخدم في سرد هذه القصة أو المذكرات سرداً عادياً بلا تقنياتٍ معقدة، مع أنه يأخذ شكل الروي أحياناً وشكل السيرة أحياناً أخرى والانثيال السردي لأحداثٍ جرت في الماضي البعيد.
 يفصح لنا النص عن تناقضات الشعور الإنساني وتحولاته ما بين النقيض والنقيض، متمثلاً بمواجهة الكاتبة لمشاعر الحب الذي وجدت أنها تكنه لوالدتها فجأة، بعد أنْ كانت تقف بالند منها وتتخذ منها موقفاً عدائياً مكشوفاً بسبب شخصيتها المتمردة والرافضة لما اعتاد عليه المجتمع.
ولربما كرست هذه التجربة التي عاشتها الكاتبة لشخصيتها التي اتسمت بها كونها فتاة غير ملتزمة بتقاليد مجتمع، ترسم مسبقاً دورها في الحياة، فكانت بمثابة الابن الذي تعتمد عليه الأسرة مادياً خصوصاً بعد مرض والدتها المرتبطة بالقيم البرجوازيَّة.
الموت يتكرر مثل الحب
لقد تكررت تجربة الموت الأليمة العاصفة هذه، مرة أخرى في حياة الكاتبة بموت سارتر الذي قالت عنه حتى بعد انفصالها عنه {كنت أعرف أنه لن يخرج من حياتي مرة أخرى}. وكتبت عنه أيضاً بشكل يجعلنا على يقين أنه كان حواراً مع الأرواح واستفراغاً لمشاعر طاغية من ألمٍ وذهول، أكثر منه سرد للذكريات والمواقف.
تبدأ السيرة بسردٍ يعلو فيه صوت الذكريات التي تؤرخ الأحداث العادية لامرأة طاعنة بالسن، ولكنها سرعان ما تسترد بعض أحداث ماضٍ قريبٍ تجعلها متداخلة بصلب حديثها الذي يؤرشف لأحداث ما قبل موت أمها.
ويعلو هنا صوت ضمير الكاتبة ليفصح عن بعض أوجاعٍ مختبئة من ترك الأم لمصيرها والانشغال بدوامات الحياة والسفر المتكرر وبسارتر أيضاً، وعتاب الأم وهي على سرير المرض والموت. لا يزال لدينا كما تقول الكاتبة الكثير من اللوم الذي يواجهنا لأننا في السنوات الأخيرة كنا مذنبين بشكلٍ خاص بالإهمال والإحجام إزاء أمي.
حرصت سيمون دوبو فوار على أنْ توثق الأيام يوماً بيوم في تلك الرحلة الموجعة في تعبير آخر عن وجع الضمير تجاه تلك الأم. إنها تسرد لنا كثيراً من الذكريات عن حياة الأم السابقة، وكأنها تريد أنْ تفرغ ما يثقل سلتها بمشاركتها هذا الحمل مع القراء. كما أنها كانت تصف بشيء من الإعجاب ما كانت عليه هذه الأم في ما مضى، بينما هي الآن ممددة على أريكة في أحد مستشفيات باريس والحزن الذي يجتاحها، وهي تقارن بين حالتيها وتغالب دمعها ليس خوفاً على مشاعر أمها بل رغبة منها بالتجلد وعدم الإقرار بالهزيمة، هزيمة الزمن والحياة.
 
صدمة النهاية
لا تتوانى سيمون في الكشف عن أدق خلجاتها وأكثرها خجلاً وهي تعبر عن صدمتها من ملاحظة التغير الذي طرأ على الأعضاء التناسليَّة لوالدتها، ومدى التغيّر الذي أذهلها وغيّر الصورة التي ألفتها لأعضاء والدتها ولا تخجل بالكشف أيضاً عن مشاعرها المرتبطة بهذه الأعضاء وإعجابها بها في ما مضى من الزمن. وهكذا تشير إلى أنَّ جسد الأم قد استقال عن كل وظائفه ليكون جسداً فقط لا أثر فيه للحياة، تتفحصه أيادٍ محترفة بلا أي محظوراتٍ ولا مقدسات.
كانت تتحدث إلى سارتر عن حالة والدتها وتصف له مشاعرها المحيرة التي فاجأتها بكل هذا الحزن حتى تلبست وجهها وإيماءاتها، هي التي لم تكن قد حزنت على والدها.
ويتكرر استدراك الماضي باسترجاع الأحاديث والذكريات الماضية في حياة الأم القروية القليلة الفطنة، في خضم مجتمع باريسي يقابلون ارتباكها بالابتسام، بعد أنْ اضطرت أنْ تعيش زواجاً برجوازياً. وتستطرد الكاتبة في سرد حكاية تبدلات الحياة التي انقلبت بهم من الغنى إلى الفقر والديون التي دفعت بالأم إلى نسيان نفسها وأسرتها بدافعٍ من شعورها بالمرارة مع احتفاظها بنزواتٍ من التمرد على كل هذا الوضع وكل هذه القيود. وتمردها على موت الرغبة وانطفاء جذوة الحماسة في الأسرة بسبب الاعتياد والتجاء الأب إلى المومسات وبائعات الهوى. ولربما كانت الأم تبتعد أكثر عن الأب لأنها تدربت على الهرب من الحقائق المزعجة. ولم تستطع التحدث عن صعوبات حياتها لأحد ولا حتى لنفسها، فتقول سيمون دو بو فوار، {لم أعتد أنْ أراها واضحة، إذ كانت بحاجة إلى الاختباء خلف الحجج، كان في داخلها امرأة من دمٍ ونار}.
 
الشجاعة ازاء الموت
يا له من إذلال تعيشه امرأة اعتادت العيش بمشاعر مليئة بالفخر ولكنها مع ذلك لم تشعر بالخجل، وكان هذا شكلاً من أشكال الشجاعة لامرأةٍ متعالية تعتنق القيم الروحية بكثيرٍ من العزم. لكن جسدها يرغمها على ألا تحلق في السراب وتراقب التغيرات اليومية التي تطرأ عليه. ومع ذلك بقيت مخلصة للرصانة، متحررة أخيراً من الشعور بالاستياء، مستسلمة لرغباتها. كان مرضها قد حطم درع أحكامها المسبقة ومزاعمها، ربما لأنها لم تعد بحاجة إلى هذه الدفاعات ولم تعد هناك مسألة تنازل أو تضحية. ولم تمنح لنفسها حق التمرد بل كانت صامتة.
ويفصح النص عن تطور العلاقة بين الكاتبة وهذا الجسد الممدد على السرير، فتفصح دو بو فوار بلا تكلف وبكلامٍ أشبه ما يكون بالاعتراف أنها أصبحت متعلقة بهذه المرأة المحتضرة فتقول “بينما كنا نتكلم في الظلام كنت أخفف من ندمٍ قديم فاستأنفت الحوار الذي تعطل في أثناء مراهقتي، فخلافاتنا وتشابهنا لم يسمحا لنا أبداً بالتجديد. والحنان القديم الذي كنت اعتقد أنه انطفأ ثم انبعث ثانية}.
{كنت كاتبة معروفة وكنت المعيل الوحيد للأسرة وهذه الظروف جعلتها، (الأم)، تبرر عدم انتظام حياتي فلا تعود تكترث للشائعات العامة، وكان يصدمها فحوى كتبي وتفخر بنجاحها ولكن بسبب النفوذ الذي منحته لي بحسب نظرها فقد تفاقم انزعاجها فصرنا نتحاشى أية مناقشة}.
{لقد عذبت أمي نفسها من أجل روحي، وكانت سعيدة بإنجازاتي، لكنها تأثرت بشكلٍ مؤلم بالفضيحة التي أثرتها في محيطها. فلم يكن مقبولاً أنْ تسمع أحد أبناء العمومة يقول {سيمون هي عار الأسرة}. كنت أتحد برفضها وتمردها ولهذا السبب صرعتني هزيمتها}.
وكما تعرفنا على سيمون المناضلة الشجاعة والمتمردة العنيدة، نتعرف عليها من خلال هذه السيرة امرأة ذات حساسيَّة مفرطة وحنونة إلى حد الانكسار.
* عن رواية (موت عذب جداً) الصادرة عن دار المدى 2020، (96) صفحة من القطع الصغير، ترجمة كامل عويد العامري.