شفرات حلاقة

ثقافة 2019/02/23
...

ابتهال بليبل
 
 
لا تكن مسروراً، 
فالعجلات النارية التي تغزو زقاقنا
ترفع نسبة البلاغات ضد المتحرشين: هنا، حيث تستعين 
الفتيات بشفرات حلاقة أو شتائم مسننة، وربما صواعق كهربائية في حقائبهن.  
 
لا تكن مسروراً
آثار الشفرات التي تلمحها على أصابعي في الإبهام والسبابة ليست خدوشاً، 
تكوّنت لحظة تجريب أحدهم طريقة جديدة 
لقتلي، بل من شفرات الانتظار التي تركتها آهات العابرين، حيث ركضتُ نحو تلويحات مجهولة من الخلاص. 
 
أنظر إلى آثارها، تبدو كالأحلام الخائفة تتحرك بخطوط مبعثرة، تتلفّت بفضاءات الأزقة العمياء التي تقودها، عادة، إلى جهتين 
مختلفتين، من الصحو.  
بالإشارات نفسها، كنتُ أبحث عن متجر لبيع الشفرات من أجل تبديل تقليعات فساتيني، بينما أتابع سرعة نبضي –وأنا- قلقة من تمرير الشفرة على الخيوط لقطعها، من دون الضغط على أنسجتها لتجنّب تمزّقها. 
 
مرةً، نصحتني سيدة - ماتت الآن- في الاستعانة بشفرة لإزالة الخيوط الزائدة، لقد استخدمتها كثيراً، وغيرت موديلات لفساتين وبناطيل، كلما تأملتُ جسدي، حيث لا شيء يغطيه. 
 
ثمّة فساتين أو –تنورات- وربّما صدريات مدرسية طويلة، أطول من نهايات تغطي ملامح النضوج في أجسادنا، كتماثيل من أقمشة، تكفي رفّة من حواشيها، 
لنعثر على كدمات قديمة حول سيقان 
لجميلات، وكأنّ شفرات الحلاقة هنا، تلميحات ملوّنة تحت فساتين ناقصة الأنوثة.. الأنوثة التي تشيخ، 
مبكرة، من نار الأعراف الاجتماعية. 
نحن اللواتي، حسبنا أنّنا عاشقات، أسوة بعالقات صرنّا، داخل غرف كانت مخابئنا للمناديل الورقية والدموع،
 لقد قضينا أعمارنا التجريبيّة، ننتظر مصادفة تأخذنا بعيداً عن طفولة حبست نفسها طويلاً. 
 
ارتديتُ، لاحقاً، جوارب سميكة وطويلة، 
لأنّني أردتُ، تغطية سيقاني كالرجال، حتى تكون، 
ولو على سبيل -التذكر- أنوثة منكوبة، بديلاً عن شفرات حلاقة الشعر.
هكذا، تركتُ عنادي وهو يمشي إلى الكارثة، يعبرُ رؤوسهم في ارتباك يُؤرقني، وبقوة العقاب وحده، يمكن لامرأة – مثلي- أن توفر 
تسويغات مقنعة عن حدادها، 
فالحياة الآن، ترتدي فساتين سوداء فوق الرّكبة لعاشقات نصفهن يرسمن ببرامج –الفوتوشوب- صور أجسادهن الافتراضية، 
والنصف الآخر بلا ذاكرة قلوب.   
مأساة النساء الحقيقية، ربّما ستنتهي هنا، ولكنّها، حتماً، ستبدأ مع فساتين وصدريات جديدة. 
 
عادة، ما كنّا نعشق موضة شفرات الحلاقة: قلادة أو ميدالية، وربمّا مجرد أقراط، كما لو أنها جاءت لتسليح الفتيات.. الفتيات العابرات نحو ضفة الوجع، أتذكّر أنّني وصلتُ قبلهن، عند جسر يتأرجح في الليل 
كدمعة مُكّللة بالندم.. كنتُ حينها أقلّب النظر بالظلّال التي تسقط وحيدة، وبجروح طريةّ، هنا 
قريباً من القلب: وجوهك، وتلك وعودك، 
أضاءت كلها مرّة واحدة على شفرة بثقل موضة فوق الرقبة.
 
يد أمّها كانت قاسية، 
رسمت بالشفرة على جانبي وجهها، 
خطوطاً طولية، لطالما تفرقعت بأسرار تمشي 
باتجاه ما سأكونهُ يوماً، كنتُ حينها، 
على أقدام من قلق يتربّص بركام هائل من الانتظارات، 
فوق حائط حديقتنا القديمة، أتلصّص على جارتنا من السودان، 
أتذكّر عندما سمعت صراخها، صرتُ أفزّ من غفوة دخلت إليَّ من مرايا تبتكر الوجوه وتعكسهم داخلي لخلعي. 
ومنذُ غسلتْ أمهّا جروحها 
المفتوحة على كلّ احتمال، ووضعت على وسعها القطن المشبع بالمحلبية والقطران، وأنا عالقة بوجهٍ ليس
 ليّ.
 
هذا التراث على خدودها المنتفخة كان، ينتشي من ألمها، ويدخل في رأسي  
لأسابيع، أتساءل: كيف تفرح فتاة بتقليد كهذا؟
والفرح لا يفترض طريقة للتشويه، بينما أمّها تركض قبلها إلى العتبة، ظنّنا، أنّ العرسان 
الذين سيتوقفون كثيراً أمام البيت.. لن تبشّرها بهم سوى شفرة لامعة، التي شروخها في آخر الأمر مثل وشم يمسك بذاكرتي كلما ابتعدتُ. 
 
أدري أنّني كنت أغسلُ الدماء اليابسة في بيت ترك الجناة بابه عرضة لأحوال الطقس، ونجحتُ – حينها- في تثبيت عنقي على جسدي، وأغلاق الباب الذي لا يميز بين جهتين مختلفتين. 
كل ذلك لم يهمني،
فقد كنتُ أريد أن أرى بما يكفي لأرسم بشفرة عمياء أجساداً، 
وأُلبسها كل قمصانك التي تشوهت، فجأة مثلي، 
ولكنّي تأخرتُ
وبالكاد، عرفت أن هذا ما حدث عندما قتلوك.
 
قبل هذا.. ومن أجل ألاّ أكذبه
أقنعني هذا الذي يطلق لحيته دوماً، أن شواء سمكة بتنورهم الطيني، أحدث حروقاً في وجهه،
 لهذا، كشطّها بشفرة حلاقة.
ولأعوام، 
أغسلُ باحة بيتنا الخلفية تصديقاً
بأكاذيب تشبه شفرة تخدش بلون الدم قلبي.
ولا أقصد بهذا، ما يدافع عنّي، أو عن التنور الذي صار كعجوز خامدة، لا تتذكر شيئاً. 
الحكمة التي كانت كرماده المتطاير، هكذا لوحده، على مسافات تقاس بالدموع، كمن على كتفه نفسه يطبطّب العالم.. العالم المخادع الذي يبدو، أحياناً،أكثر رحمة من الحقيقة. 
 
لا شيء يستحق، حين نصدق أن الحياة مثل سمكة، وأننا يجب أن نتناولها مشوية، 
هكذا على طاولة خشبيّة في حديقة واسعة، 
ولا ننتبه لشيء، مثلا: شفرة حلاقة، 
أو ربّما كانت هي الحياة ذاتها.. شفرة على وجه غامض، 
تتساءل لحيته لأيّ مهمة أنا هنا، هيا، لنهرب سوياً؟، 
أنا هنا قرب التنور
منحنية على عمقه، أجمّعُ داخله، سعف يابس، وأغصان متروكة،وخشب شائك.. ورجل. 
لأمكث بعد ذلك، بعيدا عن كلّ الحوافّ الحادة التي من الممكن أن تغير ملامحهم، بقسوة –السيكوباتية.