احتفاء بالحياة في العرض المسرحي أوفر بروفة

ثقافة 2019/02/23
...

د. حسين رضا حسين
 
 
على مدى سبعين دقيقة قدم المخرج الاحتفالي علي الشيباني عرضا مسرحيا أدهش جمهور العرض الذين غصت بهم قاعة قصر الثقافة والفنون في محافظة كربلاء وبحضور ألف مشاهد تقريبا وهو من تقديم فرقة السراج للمكفوفين. وهوية العرض كانت من ضمن مسرح الكباريه السياسي وهو ما انطوت عليه مدونة العرض في مناقشة جوهر الواقع المعيش، وفي اشتباك متواصل مع الاحداث التي تلامس الواقع الآني  وبأداء جريء وبما يختزنه هذا الاتجاه المسرحي من قوة تحريضية متدفقة بالعلاقة مع الجمهور بوصف الجمهور مفصلا فاعلا ورئيسا في العرض المسرحي، مع الاحتفاء بالمغدور الكاتب الروائي (علاء مشذوب) عبر استدعاء دراجته الهوائية الى منصة العرض التي كان يستقلها في عودته اليومية الى بيته حين تم استهدافه ولكن أضفى عليها المخرج هالة من الضوء في العجلتين وهي اشارة واضحة لأيقونة الثقافة العراقية في ضوئها الساطع نحو الأمل بالتغيير، وللشيباني أكثر من تجربة مسرحية في هذا المساق ،واعني به عروضه المسرحية التي قدمها مع ذوي الاحتياجات الخاصة في صنعاء منتصف تسعينيات القرن الماضي.
• سميأة المبصر والبصير 
لقد كانت التجربة المسرحية ومازالت تثير العديد من الاسئلة حول الوجود في اشتباكها مع الواقع بغرض الكشف عن الجوهر في التجربة الانسانية، وعندما يكون ابطال العرض من المكفوفين فاننا أزاء معضلة فنية في كيفية الحركة على خشبة المسرح في تأكيد الفعل الدرامي للكشف عن ذات الشخصية البصيرة وعلاقتها بالآخر وهو ما دعا مخرج وبطل المسرحية، وهو المبصر الوحيد في هذا العالم الذي يقدمه العرض، أن يلعب لعبة مسرحية تتوفر على خاصتي الترقب والتشويق في استدراج الفكرة عن طريق بناء الفعل الدرامي وجها لوجه امام المتلقي ومن ثم كان للحدث أن يمتد أفقيا ومن ثمّ يستقيم عموديا بعد بنائها بافتراض نحن في ورشة مسرحية تنطوي غل قدرة في اعادة تأثيث معمار البنية المشهدية عبر اشتباكه مع الممثلين المبصرين لنتعرف عن صرخاتهم الاحتجاجية ضد وجود لا يعينهم على الاندماج في هذا العالم فحسب بل الايغال في تهميشهم لنكتشف في المشهد الأخير انهم هم المبصرون والشخصية المبصرة الوحيدة في العرض هو الكفيف، وذلك عن طريق لعبة العلامات بدلالاتها الرمزية المكثفة حين يخلعون أزياءهم الموحدة التي انطوت عليه شخصياتهم ويبقون بملابسهم اليومية فيما ارتدت الشخصية المبصرة زي الشخصيات الكفيفة مع النظارة السوداء وبيده العصا، وماعززّ هذا الشعور هو تناغم سينوغرافيا العرض في تشكيل بنية المشهد بصريا بزخم درامي مرسوم بدقة، وهو ما يشير الى ان نتاج المسرح يكمن في الاشارات الثقافية التي يقرأها الجمهور وفق استراتيجيات ثقافية متماثلة.
• تقانة التلقي 
 لان اللعبة المسرحية تقتضي "الآن" و "هنا" في تقديم افتراضها الجمالي ورؤيتها للعالم أمام أنظار المتلقي، فان السؤال يفضي الى الكيفية التي يتم بها تقديم العرض بحيث تتحقق معادلة التفاعل والتواصل بين القطبين، وهو ما تمكن منه المخرج علي الشيباني في استدراج ذائقة التلقي عن طريق لعبته في ترتيب بنية الفعل جماليا وفكريا، فهو لم يقدم المشهد كما يفترض مرسوما بدقة عبر أنساقه البصرية والسمعية والحركية بل كان في اشتباك متنامٍ مع الفعل الدرامي وكأن كل شيء يحدث الآن ،من دون اتقان مسبق في تأطير احتجاجه على هذا الوجود الذي ينتهك من كرامة الانسان باستمرار وبروح من الدعابة والاداء المتقن عن طريق بنية درامية محكمة صعودا الى تعقيد الفعل ومن ثم وصولا الى الذروة، وتباعا في كل مشهد مع ما يفترضه مسرح الكباريه السياسي في الكشف ليس عن الانتهاكات المضمرة في الوجود الاجتماعي  فحسب بل عن طريق الاحتفاء والاحتفال لمسيرة الانسان في هذا الوجود عبر اعادة العلاقة بين الجمهور والخشبة، ، وبذلك حقق العرض مستوياته في التلقي في الاتصال الذاتي، الاجتماعي، الفكري، ومن ثم  الاتصال الجمالي المتحقق من  افق التوقع السابق للمتلقي والحالي المتشكل وعلى وفق رصد المسافة الجمالية التي هي المسافة بين الافقين. ومن هنا يمكن لنا أن نتفهم هذا التفاعل المتواصل من قبل جمهور العرض سواء بالتصفيق أو التعليق عن الاحداث او الترديد مع ما يطلب منهم من قبل شخصية المخرج في العرض.  مدونة النص التي شارك في رسمها لؤي زهرة وعلي الشيباني وتقديمها من قبل فرقة السراج للمكفوفين كان سراجها قد اضاء بعضا من عتمة الوجود المتمثل بانتهاكات الواقع الآني عن طريق قلوب المبصرين المحبة للحياة والمسرح.