ونحن أيضاً نحترم الأرواح

ثقافة 2019/02/23
...

ياسين طه حافظ 
 
أثار هذا الموضوع ما قرأته في رواية كازانتزاكي "زوربا"، إذ هو وصاحبه في جزيرة كريت وباتجاه احدى القرى اذ اقتربا من شجرة تين ضخمة فتوقف احد الولدين القرويين ليقول لهما: شجرة التين هذه تابعة لسيدتنا الصغيرة..
وإذ يسأله زوربا لماذا تدّعي هذا يجيب الولد الكريتي : "في الايام الماضية وقعت احدى بنات الاعيان في حب احد الرعاة الشباب لكن والدها لم يوافق فراحت الابنة تبكي وتصرخ وترجو والدها الذي ما لان لهما .. الى آخر الحكاية" 
حقيقة المسألة ان الحكاية اختراع ذكوري. وبؤساؤنا الحالمون يتمنون التقدم الى او الحصول على الاجمل، الافضل، الاغنى ... الى البيوت الوجيهة وغناها وجمالها. البؤس يريد سعادة بديلاً. ولأنهم عاجزون عن تحقيق هذا، جعلوا البنت هي التي تقع في غرام الراعي الفقير وهي التي تريد الوصول له ... أو الموت. وغالباً ما تتدخل الارواح والمعجزات في حل اشكالات كهذه. ويكاد يكون هذا مضمونا شعبيا شرقيا بامتياز. هو في الهند كثير وحتى اليوم يشكل موضوعا للكثير من افلاهم وهو في آسيا الفقيرة وأفريقيا ما انقطع تكراراه في حكاياتهم والاساطير. هي الامنية وصعوبة تحقيقها فنعيد رسم المعترك او الحياة. وقد نفسرها بصعوبة الانتقال من طبقة اجتماعية الى اخرى الا بتدخل قوى او ارواح او ارادات غير بشرية يخترعها العقل لتحقيق ما يعجز عن تحقيقه.  
وترد هذه في احوال اخرى، لتكون اقداراً وقوى لا تُرَد، وهي تؤمن، كما يقول فريزر، في ارواح اقوى لا يستطيع البشر التحكم فيها تحكما مباشراً فلا بد من استرضائها كي تحقق للانسان رغباته او تزيح فقره او تنتصر له او تعوضه خيراً .. 
وهنا طبعا يتدخل السحر ليزيد الفعل سرعة وقوة. والارواح احيانا لا تنجز الافعال هي ولكنها تودع في الشخوص قوة سحرية وهو بها المنتصر والمنتقم والذائد للشرور والمظالم عن نفسه أو عن الناس.
هذا إيمان نافع في جانب منه لأنه يعادل او ينفي اليأس ويمنح الناس املا بالفرح او بالانتصار. وان تلك الاراوح، أو تلك الروح العظيمة، لم ترضَ بالشر، كما لم تتخلَ عن الضعيف العاجز ليسترد حقه. وهي احيانا تعين الساعين للخير ومن يريد ينقذ غيره من شر او حريق او غرق. 
هذه الافكار تشغل اليوم العديد من الافلام وحتى افلام الفضاء الحديثة ومتاعب الابطال في سفنهم الفضائية او مركباتهم او اجهزتهم المتخيَّلة والتي تشتبك مع اعداء او تتعرض لمخاطر او تدمير. 
نحن لا نستهين بما نقرأ أو بما نسمع من الناس، حكايا وافكارا واخباراً غريبة. علينا ان نفكر بمخاوف البشر وبآمالهم وانهم يدافعون عن انفسهم او ينتصرون لها او يؤمّلونها 
بخلاص .. 
اشكال الارواح اختلفت عبر مراحل التاريخ والتحضر كما عبر مراحل التقدم العلمي. ولكنها ما تزال. ما تزال لأن البشر محتاجون لها. فحتى الرجل العلمي الذي يحلل ويبحث في المختبر ينتظر ان يجد عونا او ما يجعله يفرح بالانتصار على العقبة او الغموض او اللاحل . تفسيرها يختلف والاقرار بها يختلف من مستوى الى آخر لكن الارواح موجودة في كل حال، واننا محتاجون لها بأي شكل ترتئيه ثقافتنا . فهناء الروح بعد الموت جزاء عمل صاحبها الصالح النافع وعذابها وندمها بعده جزاء عمل صاحبها السيئ والمؤذي. هذا الايمان افاد البشرية كثيرا واسهم في تقدمها 
وتهذيبها.
من البداية اراد الانسان ان يسحب الفعل المنجز له. فـ"براهما" الذي رأوه بصورة "خالق العالم"، اخذته سِنة من النوم تاركا لآلهة اصغر وارواح اصغر تولّي الخلق وراح يظهر نفسه من خلالهم. واليوم ونحن في عالم يكتشف ويخترع وينقذ، لا يزال الناس فيه يمتلكون ارواحا "خاصةً" قادرة على الفهم وعلى الوصول والانجاز. هي روح العلم او روح العمل او روح الايمان، لك ماشئت، هذا الوهج الكوني القادر على الانجاز اليوم، القادر على الابداع، هو مضمون قوى البشرية المبدعة يتطور به تطورها. لكن أي قدرة واي وهج كاشف و أية كشوفات روحية، انما هي بعض من روح الكون الغامض الذي اطلعنا من حجارته وفينا بعض من عظمته او سره .. لسنا ضد الارواح ولسنا من ناكريها ولكننا نهبها فهم عصرنا ولا يمكن ان نتحدث عنها الا باحترام، وباجلال لما لم يُكْتشَف مداه بعد.