محمد علي شمس الدين لـ «الصباح»: العراق دائم التدفق الشعري حتى قيل إن الشعر عراقي!
منصة
2021/08/08
+A
-A
بيروت/ جبار عودة الخطاط
منذ أكثر من أربعة عقود وهو مهجوس بطقوسه التي هي مزيج من اصطياد نار الكلمات، والضجر، واللعب، والعبث الواعي، والمكاشفة الصوفية، والأسئلة الفلسفية، التي ألقت بظلالها المواربة على أوراقه الشعرية «لستُ سوى مسافر»، هكذا يختزل مسيرته وهو الذي بلغ اليوم من الشعر عتيّا، وما زال مستمتعاً بلعبته الأثيرة "جلستُ على مقعد فوق هذا الزّبد/ ضربت على وتر غامض ضربتي وأصغيت/ كانت على البحر تطفو مراكب مهجورة / وفوق الصّواري تمرّ النّوارس مثل البروق/ وناديتُ طيري الغريب ليأتي أيا نورسي وحبيبي/ فلم يأتِ، ناديتُ بالألسنِ السّبعة المشتهاة ولكنّه ظلّ يمضي على صفحةِ الماء ظلّاً كئيباً غريباً مُريباً ومنسحباً كاعتذارٍ نقدّمه للحياة"
أكثر من أربعة عقود ثرية شكلت تجربته الشعرية الزاخرة، أكثر من (23) مجموعة شعرية فرضت ألقها الشعري الباذخ على خريطة الشعر العربي، منذ مجموعته الأولى «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» عام 1975 وحتى كتابه الأخير «اخر ما تركته البراري» عام 2020، هو اليوم من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، ولد عام 1942 في قرية بيت ياحون في بنت جبيل بجنوب لبنان، ترجمت أشعاره إلى الإنكليزية، والفرنسية والإسبانية والفارسية، له علاقة تأريخية أكثر من مميزة مع العراق الشاعر.. .
«الصباح» التقته في بيروت وكان هذا الحوار:
*منذ قصائدك المهربة إلى حبيبتك آسيا، وأنت تصر على أن تبقى دفاترك الزرق مشرعة للريح، بحيث تبقى «انانا» نائمة تحت الطين!.. متى تتحرر انانا من الفتى محمد علي شمس الدين؟
- ربما كانت "انانا" التي ايقظتها في كتاب " اخر ما تركته البراري" (دار النهضة العربية 2020) هي " اسيا" التي سافرت معي إلى البصرة من نصف قرن من الزمان إلا القليل، وكانت تبكي في اخر الليل والريح تنقر الباب والدم والجدار.. الهة الحب والحرب والتحولات.... فبالشعر يتم هذا التماهي الخطير بين الاسماء والاماكن والازمنة.. ولست سوى مسافر....
*تتساءل في أحد كتبك المبكرة (كتاب الطواف): "تستوقفني أحياناً/ وأنا أجلس في بيتي/ أصوات لا أعرفها/ تأتي من زاوية لم تكشف للشمس حواشيها/ أسأل نفسي: هل لحجارة هذا البيت فمٌ"؟.. السؤال: ماهو كنه هذه الأصوات، التي طالما استوقفتك منذ نحو نصف قرن؟
-الأصوات التي تفاجئني حين اجلس في الليل تأتي من ناحية غامضة من جهة الغيب. وهي نداءات الشعر التي اعتقد بأنها تأتي من ناحية ميتافيزيقية يصعب تحديدها، ولعلني في هذا المقام اجد نفسي ملتجئا للشاعر حين يقول: " فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر".
*نُقل عنك أن " الشعر بالإمكان اختزاله بالعبث الذي هو أخطر من عبث الأطفال، عبث يفرزه وعي الشاعر بكينونته" ، ترى أنّى للشاعر أن يعاقر طقوس (عبثه) الواعي، في زمن العبث السياسي الذي أوصلنا إلى درك سحيق من الأزمات؟
- العبث جزء من الشعر واضيف اليه الضجر واللعب، لكن الشعر ليس هذا وحده؛ الشعر هو مكاشفة عميقة للانسان وهو يحدق في ذاته وفي ما يحيط به من الوجود... وهذه المكاشفة تضعه في غابة من الأسئلة..
في متعة غامرة...
وفي وحشة لا توصف...
وليس بين يديه سوى الكلمات.. وحين يجد ان الكلمات لا تكفي يلجأ الى الصمت فيصبح الشعر هو الصمت
بالمعنى الوجودي والصوفي للصمت.
*الشعر اليوم هل هو بخير؟ أو خسر الرهان لصالح الرواية؟ كما ذهب إلى ذلك الناقد جابر عصفور في كتابه المثير "زمن الرواية" الذي أصدره عام 1999، متأثراً في دعوته التنظيرية بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، وبذا لم يعد الشعر ديوان العرب؟
- دخلت في حوار مفتوح مع الصديق الدكتور جابر عصفور في القاهرة في دار الأوبرا لدى افتتاح الملتقى العالمي الثاني للشعر العربي في مصر، وبينت ان الرواية فن حديث يعتمد على السرد والتقصي، وان الشعر هو ذروة الفنون واليه تصبو جميعها بما في ذلك الرواية باعتراف نجيب محفوظ وغارسيا ماركيز، ولا تجوز هنا المفاضلة بين فنين مختلفين. وهذه المساجلة بيننا ذكرتها الصحافة داخل مصر وخارجها في حينه.
*تحتل موضوعة الحداثة أو الميتاحداثة مساحة واسعة في المشروع الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص.. ولكم رأي خاص بهذا السياق.. محمد شمس الدين بعد هذا الماراثون الشعري الحافل، كيف يمكن أن يقارب مفهوم الحداثة؟
-الحداثة مقترنة بالشعور بالنقصان وعدم الاكتمال، وهي بحث دائم عن الجديد.... والحداثة ايضا ليست نتيجة البحث عن الجديد وحده، بل هي توق المخيلة الدائم للابتكار والتجاوز.
*وربطاً بالسؤال السابق؛ كيف تنظرون الى قصيدة النثر؟ وما ينشر منها اليوم؟
-قصيدة النثر نمط شعري جديد ابتكره بودلير، وهي اضافة حقيقية لاساليب الشعر وتقنياته . اضيف لذلك انها تشكل نظريا وعمليا تغييرا مهما ومفصليا في مفهوم الشعر وارتباطه التقليدي العريق بالوزن، كما رأى ارسطو في كتاب " الشعر" والفلاسفة والنقاد العرب في نظرتهم الكلاسيكية للشعر ( ابن سينا وابن قتيبة الدينوري وحازم القرطاجني)، فالتغيير طرأ على الركن الموسيقى الايقاعي في الشعر، وهو ما اقترحته قصيدة النثر.
*علاقتكم بالشعر العراقي وطيدة ولكم صداقات ثمينة مع البياتي ويوسف الصائغ وطهمازي وعبد القادر الجنابي، وبلند الحيدري، وشاركتم بمهرجان المربد عام 1974 ، كما كانت لكم زيارة لبغداد في اواخر 2020 بدعوة من اتحاد الادباء..
كيف تقيمون هذه العلاقة؟
-علاقتي بالعراق وشعرائه هي بعض ما ذكرت في سؤالك.. وهي وطيدة ومديدة.
فقد كانت علاقتي بالشعر العراقي مبكرة. سببها السياب بداية، وحين زرت العراق أول مرة في مربد البصرة 1974 كان من دواعي الزيارة الذهاب الى أماكن ذكرها بدر في ابي الخصيب. ومن البصرة انطلقت " قصائد مهربة الى حبيبتي اسيا"، وعقدت صداقات ثمينة مع عبد الوهاب البياتي ويوسف الصائغ وعبد الأمير معلة وعبد الرحمن طهمازي وعبد القادر الجنابي. وبلند الحيدري .. وبيني وبين البياتي وشائج متينة وبيننا أربعون رسالة تبادلناها في مختلف مراحل حياته. وعلاقتي بأجيال الشعر العراقي جيدة؛ جماعة كركوك، فاضل العزاوي، وسركون بولص، ومؤيد الراوي، ووليد جمعة حميد.. وكانت لي زيارة للعراق كما ذكرت في سؤالك أواخر عام 2020 بدعوة من اتحاد الادباء والكتاب في العراق، إذ اقمت ندوة شعرية في مقر الاتحاد في بغداد وامسية في الجامعة المستنصرية، كما عقدت ندوة نقدية متعددة الأصوات حول شعري في مقر الاتحاد، فالعراق نبع من ينابيع الشعر دائم التدفق على خصوصيات كثيرة، وقد قيل ذات يوم إن الشعر عراقي ...
*الآن وبعد نحو نصف قرن من الشعر لو قدّر لكم امتطاء صهوة الزمن؛ والعودة إلى ما قبل خمسين عاماً، هل ستعاود نفس اللعبة؟ أو ستردد مع لميعة عباس عمارة *لعنةُ اللاعن يا شعرُ عليك/ ما الذي أوقعني بين يديك! / كل اسرار الورى مكتومة/ وخفي الهمسِ مفضوحُ لديك"؟!
-لميعة عمارة تلعن الشعر وانا اباركه، لأنه كان ولا يزال علامتي الوحيدة في الوجود.
* يرى كثيرون أن الشعر وصل الى مرحلة اللاجدوى في ظل فداحة الخراب الذي يحيق بنا من كل صوب.. إذ كيف يقنع «محمد علي شمس الدين» امرأة لبنانية تبحث عن «ربطة خبز»، أو شابا يعصف برأسه دوار البطالة، بقراءة كشكوله الشعري؟
-محمد علي شمس الدين لا يريد ولا يرغب بإقناع احد بالشعر. بل يرى انه استحقاق لمن يستحقه. وكما قال السيد المسيح: " ليس
بالخبز وحده يحيا الانسان"... بل بأمر ما اخر قد يكون الشعر أحد احتمالاته.
والشعر اشبه ما يكون بنهر متدفق كالنيل او الفرات، لكنه من نبع غامض او نصف معتم ويجري في سهول ومنحدرات واسعة اسمها الزمان، ويصب في بحر هو الوجود، ليتبخر بفعل أشعة شمس الله ويتحول لغيوم تسقط على متابعه وتكونه من جديد.
*شكراً لكم.. ونأمل أن يكون ختامها مسكا وشعرا، فماذا تختار لنا من نصوصكم القصيرة الجميلة؟
- والشكر لكم.. سأختار نصاً قصيراً بعنوان (القبلة) من ديوان «نازلون على الريح»
أقول فيه:
كان أبي يعبثُ أحياناً بالكلمات
فيسألني مثلاً عن معنى القُبلةِ
كيف تكون
فأقول له القُبلةُ سرٌّ معقودٌ بين الشفتين
وجِسرٌ لا يعبُره إلاّ الغاوون
يعجبُ من نزقي ويُعدِّلُ من جلسته ويقول
أنتَ نسيت الفِكرة يا ولدي وأضعت العِبرة
فالقِبلةُ حيث توجِهُ وجهك نحو الله
كانت ما بين اثنين يضمّهما شغفُ الحبّ
وما زالت حتّى لو ذهبَت نحو جهاتٍ أُخرى
قلتُ إذاً، أنت تُصلّي حين تُصلّي بين الما بين
بين القِبلةِ والقُبلة
قال نعم، واعلم وتعلّم أنّ القُبلة
أجملُ ما في المعبود
سيان أكنتَ القاصد فيها
أم كنتَ المقصود.