المفتاح في قلب الرمال

منصة 2021/08/08
...

 باسم عبد الحميد حمودي
هي فصول من مذكرات وتحقيقات دونها الكاتب د.صباح علال  زاير تجسّد  أجزاء هامة من حياة الكاتب  في طفولته وصباه وشبابه لتصور جوانب من تجارب انسان  ارتبط بالأرض والحب والفقر ومعاركة الزمن ليكون.
 
هذه الفصول المتتابعة من حياة المؤلف وثيقة من وثائق  زمنٍ فيه كثير من قسوة الحياة وحب الناس  للارض، وتكاتف الاسرة من اجل أن تحيا بكرامة  وقدرة  على  اجتراح المكاره التي كانت تُثقل  حياة العراقيين في زمن الشدة والعسف.
 
سيرة الفقد
كان من تفاصيل الكتاب أنه أنقذ شابا  من السجن المؤبد وجده يقبع  فيه عن جريمة لم يرتكبها, وكان المؤلف قد عمل بعد  تخرجه في الصحافة لولعه الكبير بها دون أجور, قبل ذلك كان قد فقد شقيقه الأكبر هادي في معارك الثمانينات، إذ عاد به مراسل فوجه  باحثا عن اسرته بين  قرى سوق الشيوخ, ومن ثم فقد شقيقه الشهيد  فلاح عام 2007 وقد اغتاله جبناء القاعدة  في (ابو غريب) وهو ذاهب اليها من أجل اقرباء له.
خسرت اسرة المؤلف الكثير بسبب المرض (شقيقته زكية) والحرب المدمرة (الشهيد هادي)  وحرب التصفيات الطائفية المجرمة (الشهيد فلاح) والوالدين، حزنا على فلذات كبديهما  وهو حزن صعب وشديد القسوة،  لكنهما تحاملا على آلامهما في سبيل أن يحيا الآخرون, وسوى ذلك كثير.
صدر (المفتاح في   قلب الرمال) حديثا عن مؤسسة أروقة في القاهرة عام 2021 وقد جسدت فصوله وقائع قاسية مرت بها  أسرة الكاتب التي عاشت في أهاب قرية من قرى سوق الشيوخ  كان أولادها يقطعون المسافات البعيدة للوصول الى مدرستهم لينهلوا من معلميهم ما تيسر  من علم ومعارف.
 
 ذاكرة الاسرة.. ذاكرة المكان
هذا الكتاب يحوي الكثير من الفصول الشجية عن اصدقاء الطفولة والاساتذة الذين تباعد بهم الزمن عن المؤلف، لكنه لم ينسهم, وعن عشق الريف وعشاقه, وحياة الوالدين وتعبهما في تربية الاولاد, وعن سيرورة التطور ونمو الشباب  وتمثلاتهم بين الاصدقاء والخلان, حتى يصل بنا المؤلف الى فصول من عمله الصحفي واكتشافاته  الطريفة في حياة حسين نعمة وكاظم الركابي وسواهما.
 كان الفصل الاول من الكتاب بعنوان (أختي زكية) وهو متابعة حية لمرض البنت الكبرى (زكية) وشقيقها (زكي) بمرض يسميه اهل الريف العراقي (العلوية) أي السيدة, وهو مرض(الحصبة) التي تفتك بالاجسام الضعيفة، وقد فعلت فعلها يوما في اخي الاصغر (حازم) ونحن اطفال في رعاية الوالدين التدريسيين في مدينة الناصرية عام 1939 حيث اصبنا سوية بهذه (العلوية) وتوفي حازم وهو في سنته الاولى وعشت بعده حتى يومنا هذا.
 ما حدث لزكية، التي كانت في رعاية أم ضريرة واب يقاوم الزمان بالعمل الزراعي الذي ينتج الحنطة والشعير، إنها اصيبت مع شقيقها (زكي) وكان لابد  لعلال ان يتخذ قرارا فيحمل واحدا من المصابين الى سوق الشيوخ لينقذه, ولا سبيل عنده لحمل الاخر بواسطة الام, اذ هي لاتستطيع المشي مسافة بعيدة،  فقد كانت المسافة بين القرية والمدينة تقرب من العشرين كيلو متر, لذلك حمل علال ولده زكي الى المركز الصحي لينقذه، وبقيت زكية ممدة دامعة العينين  تفتك بها الحمى حتى غادرت الحياة.
 لا يقف هذا الفصل عند وفاة البنت الثانية، بل يتحدث عن الدراجة الهوائية الداخلة الى الريف حديثا ويسمونها (حصين أبليس)، وعن  امتناع الوالد وغيره من الفلاحين  عن زراعة الطماطة والخيار والنباتات الداخلة بالورقيات, فتلك مهنة فلاحين أقل شأنا يسميهم أهل الريف (الحساوية) وبذلك لا يقف الفصل عند وفاة زكية، بل يتحدث عن طعام الاسرة اليسير من سمك الشط المجاور وتفاصيل أخرى.
 
الأم الرائية
جاء الفصل التالي بعنوان (أمي لن تحتاج لمن يغمض لها عينيها)  ليصور المؤلف تفاصيل حياة صبي يقوم بسجر تنور الاسرة بعد أن جمع الحشائش وقطع العاقول من الاراضي الزراعية المجاورة.
 هو هنا يصور حركة الام البصيرة المتعبة وهي توصيه بمتابعة  الخبز وهو وسط التنور واعلامها  إنْ تغير لونه  لتستطيع اخراجه شهيا ممتعا.
كانت الوالدة قد فقدت بصرها وهي في العشرين من عمرها، لكن علال الزوج والاب لم يفرط بها وظلت اثيرة عنده حتى توفي وهو في حضنها بعد معاناة، وبقيت الام تنتظر ساعتها واغماض عينيها وحيدة بعد ان فقدت  عمود الدار.
في الفصل التالي (هذا فمي فأين خدك؟) يستذكر محطات حياة زوجين عاشا شظف العيش وسط ظلمة عين الزوجة وتوقها الى سيد الدار  وهي تتذكر يوم الزفاف الحافل بالمشاحيف والهلاهل, لكنها مازالت تتذكر غياب الفرح وارتداء الاسود يوم فقدت ابنها البكر.
 الفصول التالية تروي جوانب من علاقة الاب مع اولاده وابنه الصغير (صباح) وهو يغسل قدميه من الطين، لكنه يعاقبه بالضرب بالعصا لحظة الخروج على الطاعة.
 إنها ذكريات عن طفولة لم تكتمل, عاشت فيها الاسرة والأسر المجاورة في تلك القرية سنوات شظف وقسوة حياة، لكنهم كانوا يجابهون الحياة بالصبر  واقتحام المتاعب ومواجهتها.
 في قريتهم لم يكن هناك كهرباء ولا تلفاز يريد شقيقه (رؤيته) لمشاهدة برنامج الرياضة في أسبوع, لكن صبية القرية كانوا يحرصون على الوصول الى تلفزيون الجيران ولو من بعيد لرؤية مؤيد البدري ساعة بث الحلقة التلفازية.
 
الصحفي الذي كتب حلمه
الفصول الاخرى توشحت بالذكريات مع اخوة المؤلف، وهم يقودون صغيرهم للدوام المسائي معهم في المدرسة, ذلك أنهم كانوا يعملون صباحا ويحرصون على شقيقهم المدلل ان يكون معهم  في المدرسة المسائية وهو لا يقل عنهم انتباها، حاظيا باعجاب معلميه الذين يتذكرهم واحدا بعد الاخر, حيث عاش اياما جميلة، عكست علاقتهم به واحترامه لهم، وهو يجتاز أسوار الزمن متنقلا من مجال علمي  الى آخر، حتى استوى به الزمن ليكون  محررا متخصصا بالتحقيقات في  مجالات نشر لم تكن تدفع شيئا للعاملين معها, لكنه أحب الصحافة، وأحب الوصول الى الحقيقة والقدرة على تجاوز  الشأن الشخصي الى منفعة الناس.
 وحين انجز صباح علال ذلك التحقيق الحيوي عن محكوم  بتهمة القتل عن جريمة لم يرتكبها, والقتيل مازال حيا! كاشفا المستور بعد جولات عدة، بين الافراد والجماعات ورجال العدل، قدّم له صاحب المطبوع مبلغا لا يعادل الجهد الصحفي الاستقصائي المبذول، لكن النتيجة انّ  المؤلف استطاع الحصول على أمر قضائي  باطلاق سراح محكوم, سعيداً أن يُرضي ضميره الصحفي الجدير بالاحترام.
 فصول هذا الكتاب تنامت عاطفة وعملا وذكريات عائلية وعامة  ومعاناة  فترة الخدمة العسكرية  وأحزان الوالدة  القاتمة المسربلة بالأسود، والاسوأ من ذكريات فقدان الزوج والشهيدين الأخوين لتصل الى حوارات ساخنة مع الفنان حسين نعمة واستذكارات شجية مع شاعر الاغنية الصديق الراحل كاظم الركابي الذي كان رحمه الله مفتاحي الشخصي للتعرف على كبار المطربين والملحنين عند عملنا المشترك في الاذاعة للاعوام 1973  وما بعده, إذ اخترت كاظم معاونا لي يوم حاربه الجميع, حتى عودته للناصرية, وعدت أنا  الى قواعدي في الشؤون الثقافية ومجلة التراث الشعبي.
 أخيرا نقول إن كتاب (المفتاح في قلب الرمال) للدكتور صباح علال زاير يحمل أكثر من تجربة  حياتية نادرة تستحق التقدير.