سيوبان أوغرادي
ترجمة: ليندا أدور
لم تكن لتلفت انتباه المارة اليها، فلم تبدو لهم غير عادية، شابة فرنسية تستمتع بتناول خوخ ميلبا (طبق حلوى من الخوخ ومثلجات الفانيلا) بمحل يبيع الآيس كريم وسط المدينة، لكن المرأة التي كانت تجلس في
«ميلك بار Milk Bar» بالجزائر العاصمة، مساء الثلاثين من أيلول 1956، كانت عضوة سرية ضمن المقاومة الشعبية الجزائرية للاستقلال عن فرنسا، وداخل حقيبة الشاطئ التي تضعها قرب قدمها، كانت توجد قنبلة.
أدى التفجير الذي نفذته زهرة ظريف،
التي كانت حينها لا تتجاوز الحادية والعشرين من العمر، الى مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل، وجرح عشرات آخرين، ليشكل نقطة تحول رئيسة في كفاح الجزائر لنيل الاستقلال.
بلا ندم
جذب تصميم ثوار الجزائر لإرغام فرنسا على انهاء احتلالها والخروج من البلاد، اهتمام العالم ليصبح نجاحهم هذا أبرز نقاط النضال ضد الاستعمار الأوروبي بعموم افريقيا، واليوم ومع تلاشي ذلك الجيل الثوري، تبرز ظريف من بين أعدادهم المتناقصة كأيقونة بارزة.
عمرها الآن 86 سنة، وتتحرك ظريف بهدوء، وترتدي نظارات بإطار سلكي، وقد قصت شعرها الخفيف قريبا من أذنيها، ومرت عقود منذ أن تنقلت هي ورفيقاتها بين المخابئ في الشوارع المتعرجة لحي «القصبة» بالجزائر العاصمة، حيث انتظم الفدائيون سرا هناك. لكن ظريف لا تزال قادرة على تذكّر الاحداث تفصيليا، التي شكلت والى الأبد، ليس مستقبلها فحسب، بل مستقبل بلادها كذلك.
تقول ظريف في مقابلة أجريت معها مؤخرا، بمنزل ابنها بالعاصمة الجزائرية، بأن تفجير ميلك بار، الذي كان يرتاده المستوطنون الفرنسيون استهدف «خلق حالة الهلع ذاتها بين الفرنسيين» والتي كان يعيشها الجزائريون بسبب الاحتلال، وتشير ظريف بلا ندم الى أن الأوروبيين «كانوا يتمتعون بحماية مفرطة، وكأنه لم تكن هناك حرب، وكان علينا إخبارهم بأن الحرب تشمل كل مكان، وليست لنا فقط، وإنما للفرنسيين أيضا». عدّ الفرنسيون الجزائر جزءا من فرنسا، وان نحو مليون أوروبي وجدوا استقرارهم فيها مع اندلاع الحرب هناك، تقول جينيفر سيشنز، المؤرخة بجامعة فيرجينيا: «لو نظرنا الى حقبة إنهاء الاستعمار، سنجد أن المستعمرات الاستيطانية هي الأعنف والأصعب في إنهاء الاحتلال»، ورغم اندلاع حرب التحرير سنة 1954 من الريف الجزائري، إلا أن هجمات أيلول 1956، كانت مؤشرا على بداية فترة اضطرابات جديدة في العاصمة، فقد كانت القنبلة التي زرعتها ظريف، واحدة من بين ثلاث، زرعتها نساء جزائريات وسط العاصمة في اليوم نفسه، وكانت سلسلة من هجمات منسقة، اثارت رعب الأوروبيين في المدينة، ودفعت الجيش الفرنسي العام التالي لملاحقة خلايا المقاتلين وأنصار حركة الاستقلال، اذ اعتقل الآلاف منهم، ومن بينهم ظريف، كما تعرض الكثير للتعذيب والقتل، واختفى آخرون.
غريبة في أرضها
ولدت ظريف العام 1934، غربي الجزائر، ونشأت وفق نظام تعليمي فرنسي، لكنها أدركت منذ الصغر بأنها في عيون الفرنسيين، ستبقى يُنظر لها على الدوام على انها غريبة في أرضها، كما جاء في مذكراتها التي حملت عنوان «من داخل معركة الجزائر: مذكرات مقاتلة من أجل الحرية»، لكونها طالبة استثنائية، انتقلت ظريف للدراسة بالجزائر العاصمة، حيث كانت واحدة من بين قلة من الجزائريين في المدرسة الداخلية، لتلتقي هناك بسامية الخضري، التي أصبحت فيما بعد صديقتها المقربة وشريكتها بالمقاومة، وقد توفيت الخضري في العام 2012.
تستذكر ظريف بالقول: «كان واضحا لدينا أن لا خيار أمامنا سوى الكفاح المسلح، وان علينا مواجهة الفرنسيين بالعنف».
عندما حل يوم تفجير ميلك بار، تنكرت ظريف للخضري ووالدتها بزي سيدات فرنسيات ليضعن قنبلة بمقهى شعبي آخر، كما كانت مناضلة أخرى، هي جميلة بوحيرد، تزرع ثالثة في مكتب تابع للخطوط الجوية الفرنسية، لكن القنبلة لم تنفجر.
قبيل التفجير، تمكنت ظريف من مغادرة محل الآيس كريم من دون أن يلاحظها أحد، لكنها بقيت قريبة منه الى الحد الذي شعرت بقوة التفجير بعد دقائق قليلة، فذهبت مذعورة الى منزل سيدة فرنسية صديقة للاسرة، لم تكن تعلم أن ظريف وراء تلك الهجمات، فقد لعبت ظريف دور الحمقاء في ما أعربت السيدة عن قلقها مما يجري، بعدها غادرت ظريف مسرعة الى منزل الخضري، «تقول التعليمات ألا نضع القنبلة ونغادر قبل أن تنفجر فحسب، ولكن ألا نعرض أنفسنا للاعتقال»، تقول ظريف مضيفة «كان علينا العودة، لأنه في حال اعتقلنا، سيعني ذلك فشلنا عمليا»، لكن تم اعتقالها في مخبأ بحي «القصبة» سنة 1957، وأطلق سراحها بعدها بخمس سنوات، بالتزامن مع إعلان الجزائر استقلالها العام 1962، وواصلت ظريف العمل مع جبهة التحرير الوطنية التي أصبحت الحزب الحاكم للبلاد بعد الاستقلال، وتزوجت تلك الشابة من رابح بيطاط، أحد العقول المدبرة لحركة الاستقلال والذي أصبح فيما بعد سياسيا بارزا ورئيسا مؤقتا للبلاد. وعملت بمجال المحاماة وتدرجت لتصبح نائبة رئيس مجلس الأمة الجزائري، وتوفي بيطاط في العام 2000 بعدما أنجبت له ثلاثة أبناء، وعندما اجتاحت الجزائر، قبل عامين تظاهرات واحتجاجات سلمية عارمة تدعو للتغيير، شعرت ظريف وكأن شباب الجزائر اليوم يحملون الشعلة من جديد من جيلها، اذ تقول: «كانوا يقاتلون من أجل ذات المبادئ التي قاتلنا من أجلها، أي: البلد يحكمه أبناؤه».