عندما احتل القياصرة بيروت

بانوراما 2021/08/20
...

  بوريس ايجوروف
  ترجمة: شيماء ميران
 
يعود تاريخ إنشاء اول قاعدة عسكرية روسية في الشرق الاوسط إلى القرن الثامن عشر. فقد دخلت القوات الروسية إلى بيروت في 29 ايلول عام 1773، وشهدت احدى اقدم المدن في الشرق، والتي كانت تستخدم ذات مرة لوصف منطقة واسعة من الشرق الاوسطي، المسير العسكري الاوروبي عبر اراضيها. لكن ما الذي دفع الجنود الروس إلى هناك بعيدا جدا عن موطنهم؟.
اصبح احتلال بيروت من ابرز حلقات الحرب الروسية– التركية (1768- 1774). إذ قاتلت هاتان القوتان العظمى من اجل السيطرة على ساحل البحر الأسود والقوقاز، إضافة إلى التأثيرات السياسية في الكومنولث البولندي الليتواني الضعيف.
واصبحت هزيمة القوات التركية في خليج تشيسمي بالقرب من أزمير في تموز 1770 اهم الاحداث في تغيير مسار الصراع. وبخسارة تركيا لأكثر من 11 ألف جندي عشرين سفينة، فقد الاتراك عمليا السيطرة على معظم الجزء الشرقي من البحر المتوسط.
وبينما كان الروس يسحقون عدوهم على الارض وفي البحر، كانت الامبراطورية العثمانية ايضا تكافح لقمع عدد من التمردات داخل حدودها. ومع تقييد السلطان في البلقان ومناطق البحر الاسود، استغل شيوخ الشام ومصر الذين حلموا بالاستقلال عن تركيا اللحظة المناسبة للقيام بسلسلة من الثورات.
وسرعان ما حصلت الحركات الانفصالية على دعم الاسطول الروسي. وفي تموز 1772، وبمساعدة الروس تمكن الشيخ الفلسطيني ظاهر بن عمر الزيداني من سحق القوات التركية بقيادة سايدون.
وكان ظاهر من أشار لحلفائه الروس نحو هدفهم الجديد بيروت، والتي كانت تحت حكم يوسف شهاب أمير جبل لبنان. وأقنعهم باستخدام ميناء البحر الأبيض المتوسط المهم ستراتيجيا كخط رئيسي مغذٍ لأحد أهم مراكز القوة العثمانية.
 
احتلال المدينة
حدثت اول محاولة لاحتلال بيروت في تموز 1772 على يد المتمردين اليونانيين المتحالفين مع روسيا. وبأمر من القائد الروسي وصل اسطول يوناني صغير بأمرة الرائد غريغوريوس ريزو إلى المدينة، تعرضت فيها خلال الخمسة ايام الاولى لقصف مدفعي، قبيل النزول من السفينة ونهب المنطقة المحيطة.
ثم ذهب الممثل الشخصي ليوسف شهاب لغرض التفاوض مع ريزو. وبعد نجاح روسيا الصادم وانتصارات الشيخ ظاهر في فلسطين المجاورة، لم يكتفِ الامير بالتبرع للمحتلين اليونانيين فقط، بل اقسم بالولاء للامبراطورية الروسية واصبح تابعا لها وانضم لصفوف اعداء الباب العالي، الاسم الذي كان يستخدم للاشارة إلى الامبراطورية العثمانية حينها. واُبلغ الكونت أليكسي أورلوف قائد سرب البحر الأبيض المتوسط بالقرار فورا. 
ومع ذلك، كان الاتراك على وشك مشاهدة إنزلاق الشرق الاوسط من سيطرتهم. إذ وقعت بيروت في الحال وبدون ادنى مقاومة تحت سيطرة القائد العثماني احمد باشا الجزار، الذي كان ينوي تحويلها إلى حصن منيع في أسرع وقت ممكن. وذكر مؤرخ محلي: {كان الناس تحت رحمة الحراس المسلحين الذين يقومون ببناء الحصون والاسوار. واي فشل من سكان المدينة بالاذعان ينتج عنه عقاب صارم، إذ قُتل كثيرون واعتقل العديدين على انهم ثوّار}. وبخسارة المدينة عُزل الامير يوسف شهاب فعليا عن البحر، فأضطر لطلب المساعدة من حلفائه.
واصبحت بيروت في 23 تموز 1773 ممنوعة من البحر على يد السرب الروسي المكون من 17 سفينة حربية بأمرة الكابتن ميخائيل كوزوخوف. وحاصرتها جيوش الأمير على الأرض، وشهدت الايام الثمانية الاولى من الحصار إطلاق اكثر من عشرين الف قذيفة، ليلحقوا بذلك بعض الدمار بالمدينة.
وكلما طال الحصار، كلما تلاشى جيش يوسف شهاب اسرع، إذ كان اصحاب الاملاك اللبنانيين ببساطة يأمرون اتباعهم بالعودة إلى الوطن. وبالنتيجة، تحمل الروس معظم العمل. وشكلت القوات التي نزلت من السفينة حلقة حول بيروت، لقطع جميع الامدادات. لكن القوات لم تكن كافية للاقتحام.
وفي ايلول 1773، شنت حامية بيروت المتعبة والجائعة محاولة فاشلة لاختراق المدينة. ونشرت لاحقا ان الشيخ ظاهر تمكن من تفريق القوات العثمانية التي كانت في طريقها للمساعدة. وهكذا استسلم احمد الجزار.
 
لبنان الروسية
بحسب الاتفاقيات وصل الامر بين يوسف شهاب والقائد الروسي ان يعوض الأول الروس عن اية خسائر تكبدوها، وإرسال 300 الف قرش تركي اي ما يعادل ثمانية اطنان من الذهب. وبعد ذلك نقل كوزوخوف السيطرة على المدينة رسميا إلى الامير شهاب.
وبقي الاسطول الروسي في بيروت حتى نهاية عام 1774، ثم غادر الى قاعدته الدائمة على جزيرة باروس اليونانية. وانتهى الامر بان المدينة لن تلعب دورا مهما في الحملة العسكرية ضد الاتراك.
وطوال فترة التواجد الروسي في الشرق الاوسطي، ارتبط يوسف شهاب بعلاقات ودية ومقربة بين دولته وسلطانة موسكوفيا الإمبراطورة كاثرين الثانية. حتى ان البوابة الرئيسية لبيروت كانت تُظهر رمز سانت كاترين مرتدية تاجها الامبراطوري، حتى أن دبلوماسيا فرنسيا اعتبرها صورة للامبراطورة الروسية. وكان الجنود يصطفون هناك للمراقبة والتأكد من انحناء كل من يقترب من البوابة امام الصورة اجلالا لها. لكن الرس لم تكن لديهم القدرة على الاستمرار بالبقاء عناك لفترة طويلة. وأيدت الامبراطورية الروسية هذا التقييم إلى حد كبير، وادركت النخبة الحاكمة انها لم تكن تملك الموارد الكافية ولا الاسطول القوي للسيطرة على محافظة تقع مباشرة على العتبة التركية. كما كانت البلاد حينها في مخاض مليء بتمرد الفلاحين والقوزاق شنه إميليان بوغاتشيف، ولم تكن كاثرين تملك فعلا موارد لتكريسها في التعامل مع الاراضي الغريبة والنائية.
وبعد توقيع معاهدة السلام مع الامبراطورية العثمانية، غادر الاسطول الروسي اخيرا البحر الابيض المتوسط. وبعد ذلك بقليل، حقق الباب العالي النصر في مناطق المتمردين. اما الشيخ ظاهر بن عمر الزيداني فقد قُتل في المعركة، لكن الامير يوسف شهاب نجح في البقاء حتى أنه أبرم صفقة مع اسطنبول، سمحت له بالبقاء على رأس جبل لبنان.
عن راشين بيوند