الإهمال.. قاتل يزهو بنفسه

ريبورتاج 2021/08/24
...

  علي غني 
أضحت حوادث الاهمال، وسقوط الضحايا الابرياء في العراق من المشاهد اليومية المألوفة التي اعتاد عليها المواطن العراقي، فحريق مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية، وقبله مستشفى ابن الخطيب في الزعفرانية، والموت المجاني في حوادث السير سواء أ كانت على الطرق الخارجية ام في داخل المدن، وأخطاء العمليات، والرمي العشوائي، والنزاعات العشائرية، وشهداء التفجيرات، وعشرات الجرحى والمفقودين، كل ذلك سببه الاهمال الذي يغطي أغلب حياتنا، وسرعان ما يتحول الى تقصير، فمن المسؤول عنه، ولماذا يتكرر وبالاساليب ذاتها؟، وفي كل مرة، ادانات ومجالس تحقيق ويذوب الحق بين هذا وذاك.
لم تكن السيدة (جنان) التي اجرت عملية فتق، وهي في نظر الاطباء، عملية بسيطة، تدري بانها ستعيش مأساة ما بعد العملية التي ما زالت (مفتوحة)، وأقسمت (والكلام لجنان) بانها دفعت الملايين للجراح والمستشفى الخاص الذي اجريت به العملية، فمن يحاسب على هذا الاهمال؟، فحتى تثبت الحق في المحاكم أو عند نقابة الاطباء عليك أن تجري(عملية) اخرى من كثرة المراجعات، وتضيف (جنان) بتهكم!، وبعد ذلك يقولون لك (القانون لا يحمي المغفلين)، فقررت أن اعتكف بالبيت، وأسلم امري الى الله، وأسال: كيف يكون شكل الاهمال في العراق؟.
 
الطوارئ والاختصاص
وتتفق السيدة جميلة من محافظة النجف الاشرف مع السيدة جنان في معاناتهما بالمراجعات، والبحث عن الطبيب (الحاذق)، وهي تتنقل من عيادة الى اخرى عسى أن يفك لغز عمليتها الاطباء، وفي آخر الامر تجد ان جراحها الخاص كان قد نسي (الشاش الطبي) في بطنها!، في حين تشتكي السيدة (تبارك) من أنها تعاني من اهمال الاطباء لحالتها الصحية عندما تراجع المستشفيات الحكومية، وتجد ان التشخيص غالبا ما يكون خاطئا، لكثرة المرضى الذين يراجعون المستشفيات الحكومية، وترى ان الحكومة عاجزة عن حل هذه المشكلة المزمنة منذ النظام السابق، وهذا هو الاهمال الواضح بحياة الناس، وتلك كارثة يعيشها النظام الصحي في العراق، ولم يتخلص منها حتى الان.
كما تروي الانسة ليلى كيف تم نقلها ليلا للطوارئ في احد المستشفيات الحكومية وتقول: كنت اشعر بوعكة صحية وانا بصحبة زوجي الذي نقلني الى المستشفى بسيارته الخاصة، لكن المفاجأة، أن نجد الطوارئ تخلو من الطبيب الاختصاص، واغلب الاطباء الخفر هم من الممارسين، فتفاقمت حالتي الصحية نتيجة الاهمال، وما زلت اتذكر الالم الذي عانيته حتى تم نقلي الى الردهة الداخلية.
ضعف الرقابة
واعود الى السيدة (جنان)، التي ما زالت معتكفة في بيتها، وهي تفكر بتغيير جراحها، لان الامور بدأت تتفاقم اكثر، لتقول مع الاسف: ان الوضع الصحي في العراق تراجع نتيجة قلة زيارات الفرق التفتيشية للمستشفيات الحكومية والاهلية والعيادات الخاصة، لذا بدأ العديد من الاطباء يكتبون على اللافتات الموجدة في مقدمة العيادة، الاختصاص الذي يريدونه ويخفون اختصاصهم الاصلي، او ربما لا يوجد تخصص له، وعدم توافر الرقابة الصارمة هذا هو الاهمال بعينه.
ولم تنفع توسلات احدى الاسر بنقل ابنهم الذي يعاني من الم في مجرى التنفس الى الردهة الداخلية في المستشفى، بغياب الطبيب الاختصاص ليلا من ردهات الطوارئ، وضعف الاجراءات الطبية، وغياب القرار الاداري الصحيح فمات نتيجة الاهمال.
 
عدم تنفيذ الواجبات
ويعرف الدكتور عباس الصحن مدير مستشفى الواسطي التعليمي التابع لصحة بغداد الرصافة، الاهمال، قائلا: ان الاهمال هو عدم الاكتراث بالمسؤوليات المناطة للافراد سواء أكانوا مديرين ام افرادا، وربما يدخل مفهوم الاهمال بعدم متابعة الاشخاص لواجباتهم المقررة لهم.
وذهب الصحن بعيدا حينما عد عدم تنفيذ الواجبات او مراعاتها او متابعتها او مراقبتها تفضي الى الاهمال، فالدائرة تبدأ من موظف الاستعلامات وتنتهي بالمدير، والمسؤوليات متداخلة ومشتركة، كلها تهدف مثلا الى الحصول على الخدمة العلاجية المثالية، فحصول اي خلل في اي مفصل من مفاصل الخطة العلاجية، يؤثر سلبا في الصالح العام، لان كل الخدمات متراكبة للكيان العام (للامن الصحي) في العراق.
وعزا استشراء حالات الاهمال في الآونة الاخيرة الى عدم دراية الادارات بالواجبات المناطة بالمدير، والواجبات المناطة بالشعب والوحدات، كون العمل في المؤسسة الصحية عملا مؤسساتيا يقصد فيه توزيع المسؤوليات على جميع الوحدات الصغيرة والكبيرة، ومتابعة عملها ومراقبة المفاصل الرئيسة.
 
إهمال وحرائق
وعد المواطن كامل عناد، المبررات التي يسمعها عن الحرائق هنا وهناك، بانها لا تمت للحقيقة بصلة، وهل من المعقول أن يفتقد المستشفى الى معدات اطفاء، ودرجة الحرارة تصل في العراق الى الخمسين احيانا، أو ربما أكثر؟، وهل من المعقول ان المسؤول الخفر لا يتفقد دائرته، ويراقب المرضى والداخلين الى المستشفى؟ اذن، ما هو واجبه، هل يقضي وقته بالمخاطرة أو تصفح المواقع الالكترونية؟. 
وعندما انتقل من اهمال المستشفيات الى حرائق المحال ومؤسسات الدولة والمزارع، والاسواق والبيوت، فنجد التبرير الاكثر شهرة وهو التماس الكهربائي، فسرعان ما تهرع فرق الدفاع المدني وتخمد النيران وتمنع اتساع الحوادث مع تحجيم الاضرار المادية، ومن حريق المحال الى حرائق المزروعات يتكرر الفاعل المجهول والتماس الكهربائي، كما يقول المواطن احسان شاكر، وكل هذه الخسائر من دون أن تقر الحكومة بالاهمال، ان ذريعة التماس الكهربائي غالبا ما تكون حاضرة (والكلام للمهندس عباس)، عند احتراق المحال بانواعها كافة او دوائر الدولة من دون معرفة الاسباب الحقيقية او الاعتراف بالتقصير او الاهمال الذي اصبح مصيبة كبرى تهدد الحياة في العراق.
 
اعادة النظر
لكن مديرية الدفاع المدني، وعلى لسان ارفع مسؤوليها، ترى ان اغلب مؤسسات الدولة تفتقر لمراكز الدفاع المدني.
وتؤكد أن «أغلب الحرائق التي تحدث عرضية ولها أسبابها الحقيقية، وأبرزها الاهمال والعشوائية وعدم توخي متطلبات السلامة والأمان»، لافتة الى أن «هذه الأسباب تجعل فرص حدوث الحرائق عالية جداً».
واوضحت أن «أغلب دول العالم يوجد فيها قانون يلزم المستشفيات ودوائر الدولة بانشاء مراكز للدفاع المدني تحتوي على معدات انقاذ، إلا أن هذه المؤسسات تفتقر الى هذه المراكز».
وهي تدعو دائما الى «ضرورة اعادة النظر بمبدأ السلامة والدفاع المدني في جميع الدوائر».
 
الحيطة والحذر
وحتى نبين نوع العقوبة، والآثار المالية التي يرتبها القانون العراقي، لاسيما على الموظفين الحكوميين في دوائر الدولة، يرى المحامي الدكتور علاء بلاسم فهد النداوي الرئيس التنفيذي لشركة المحكمين للخدمات المالية والقانونية: ان الموظف العام رأس الدولة المفكر وساعدها المنفذ والدعامة الكبرى التي يقوم عليها بناء الدولة، فهو الأمين على المصلحة العامة وإليه يعود الفضل في صلاح الدولة، كما تقع عليه تبعة فساد الدولة إذا قصر في القيام بواجبه. 
وتابع النداوي: ومن هنا تبدو أهمية الموظف العام والأموال والمصالح بالنسبة للدولة، ومن دون ذلك تغدو الدولة كياناً غير مجدٍ وعاجزاً عن تحقيق هدفه، ولذلك تحتم على الموظف العام أن يلتمس الحيطة والحذر عند قيامه بواجباته الوظيفية وفي السهر على الأموال والمصالح المعهود بها إليه، كما تزداد أهمية هذا الواجب بعد التطور التكنولوجي الذي شهدته الحضارة البشرية واستفادت منه الدولة من خلال استخدام أحدث الأساليب التكنولوجية في إنشاء وإدارة المشاريع العامة كالقوة الكهربائية والنووية والذرية في الدول
المتقدمة.
 
ردع الجريمة
لذلك (والكلام للدكتور علاء)، يترتب وجوب بذل المزيد من الحيطة والحذر، وانَّ أي خطأ يصدر من جانب الموظف المكلف بإدارة هذه المشاريع أو صيانة الالآت والمعدات الخاصة بها، يرتب ضرراً بالغاً بأموال ومصالح الدولة، ولهذا فرض المشرع العراقي طوقاً من الحماية الجنائية على هذه الأموال والمصالح وذلك بتجريمه كل سلوك خاطئ يصدر من الموظف العام أو المكلف بخدمة عامة ويشكل إهمالاً جسيماً في أداء الوظيفة، أو إساءة استعمال السلطة، أو إخلالاً جسيماً بواجبات وظيفته، ويحدث ضرراً بأموال أو مصالح الدولة أو ما يتصل بها من أموال ومصالح الغير وذلك في المادة (341) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969
المعدل.
واستدرك قائلا «وهنا نشير الى ان المادة (341) من قانون العقوبات العراقي لم تكن كافية في ردع الجريمة، كون عقوبتها بسيطة، وعليه نوصي المشرع العراقي بضرورة اجراء تعديل على قانون العقوبات العراقي، وايجاد فصل كامل من المواد القانونية الخاصة بالاهمال والتقصير الوظيفي وتقسم المواد الى جناية وجنحة لغرض ردع هذه الجريمة وتقليلها ضمن دوائر الدولة الرسمية والشبة رسمية، وذلك لغرض مواكبة التطور العالمي في الحفاظ على المال العام والوظيفة. 
 
ظاهرة الادانات
والظاهرة اللافتة للنظر ان بعد حوادث الحريق، تبدأ الادانات الدولية والمحلية تتوالى على الحكومة، لتقوم بعد ذلك بتشكيل اللجان التحقيقية، واقصاء المسؤولين عن المستشفيات والدوائر التي حدث فيها الاهمال، وتتعهد بأن مثل هذه الحوادث لن تتكرر وانها لم تتكرر؟، ولكن نفاجأ بحريق آخر او حادثة اخرى تهز البلاد، وهذه الاجراءات كلها لا تنفع كما يقول المواطن هاشم عماد، لذلك علينا، ان نجد البدائل المقنعة لمعالجة الاهمال والتقصير، وذلك بالتشديد على الدخول الى المستشفيات من دون اذن المسؤول عن الدخول، وتأسيس وحدات اطفاء خاصة بالمستشفيات والدوائر المهمة، وأن نحسب لكل حالة حسابها الخاص، بأن نضع الاداري الناجح في مكانه المناسب، لا ان نعين انصاف المتعلمين في مراكز مهمة، علينا أن نحارب الفساد والرشوة، لانهما مفتاح لكل شر يمكن استخدامه بعمليات التخريب، ومن الان فصاعدا علينا أن نبدأ الحرب على الاهمال على انواعه المتعددة الذي كلفنا المزيد من فقدان الارواح والخسائر، والحزن الذي لا ينتهي.