غاياتري سبايفاك واستلهام جاك دريدا

ثقافة 2019/02/25
...


 
نصير فليح
 
تعتبر غاياتري سبايفاك Gayatri Spivak (م 1942) من أبرز المنظرين النقديين في عالمنا المعاصر، لا سيما في مجالها الرئيسي الذي هو النظرية ما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمارية). بل انها، بالاضافة الى هومي بابا وادوارد سعيد، يعرفون بما يسمى "الثالوث الذهبي" للدراسات ما بعد الكولونيالية. ومن آخر كتبها في هذا المجال هو The Post-Colonial Critic: Interviews, Strategies, Dialogs  (النقد ما بعد الكولونيالي: لقاءات، استراتيجيات، حوارات) (الطبعة الأولى منشورات رَتْلِج 2014). كما تناولت مواضيع أخرى مثل الهيمنة الغربية والعولمة واوضاع المرأة.
الدراسات ما بعد الكولونيالية:
الدراسات ما بعد الكولونيالية لا تعني الاشارة الى انتهاء المرحلة الاستعمارية، كما قد يتبادر الى ذهن القارئ. بل انها دراسات تتعلق بالمرحلة الاستعمارية وما صاحبها، وما اعقبها من حركات التحرر من الاستعمار، ثم اشكال الهيمنة الحالية في عالمنا المعاصر (التي هي اقل وضوحا ومباشرة من المراحل القديمة) وكل ما يتعلق بذلك من ممارسات وتأثيرات سواء على المستعمِرين (بكسر الميم) والمستعمَرين (بفتح الميم)، في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
 والثقافية.
وبالتالي من المفهوم لماذا برز في هذا الموضوع وطوره بحثيا ونظريا اشخاص مثل غاياتري سبايفاك وهومي بابا (من الهند التي خاضت تجربة وصراع طويل مع الاستعمار البريطاني)، او مفكر مثل ادوارد سعيد، حيث عانى الشعب الفلسطيني وما يزال من تبعات المرحلة الاستعمارية وما ادت اليه من الاحتلال الاسرائيلي.
دريدا وماركس وغرامشي:
يمكن القول ان اهم المؤثرات في فكر سبايفاك وعملها هو جاك دريدا، فضلا عن كارل ماركس وانطونيو غرامشي. 
وتأثير جاك دريدا يبدو التأثير الأهم، حيث انه يمتد مع امتداد عملها عبر عقود السنين، وبتجسدات ومقاربات مختلفة. بل ان غاياتري سبايفاك من اول المترجمين الذين ترجموا اعمال جاك دريدا من الفرنسية الى الانكليزية، وذلك بترجمة كتابه (Of Grammatology) ("عن الغراماتولوجيا" او كما ترجم الى العربية "علم الكتابة"). والمقدمة التي وضعتها سبايفاك لهذا الكتاب هي بحد ذاتها نص نظري مهم قدمها الى عالم الفكر النظري والبحثي باعتبارها من المنظرين البارزين.
اما بالنسبة الى كارل ماركس، فان افكاره الاساسية المعروفة على نطاق واسع بخصوص علاقات الانتاج والقيمة وفائض القيمة والصراع الطبقي كانت ولا تزال ذات حضور هام في المستوى السياسي والفكري العالمي، بما في ذلك فكر سبايفاك، رغم ان الماركسية بصيغتها الكلاسيكية تعرضت الى تغييرات كبيرة في سياق التطورات الفكرية التي شهدتها، ورغم ان الحضور السياسي للماركسية في عالمنا المعاصر تراجع مقارنة بما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية وفترات حركات التحرر من الاستعمار التي رافقت تلك الحقبة وما سبق انهيار ما عرف بالكتلة الاشتراكية او الشيوعية.
وبالنسبة لانطونيو غرامشي وافكاره الرئيسية عن "الهيمنة" Hegemony فهي من اهم المفاهيم التي تركت تاثيرها على جوانب مختلفة في الفكر الناقد للراسمالية وعالمها وتمظهراتها الايديولوجية. لكن مفهوم  غرامشي عن "التابع" أو "الخاضع" subaltern له اهمية خاصة في فكر سبايفاك. ذلك ان مقاربة اوضاع شرائح الخاضعين في المجتمعات المستعمَرة، سواء تعلقت بالفلاحين او الفقراء او العمال او النساء يحتاج مفاهيما اقل صرامة من التصور الماركسي التقليدي عن الفرز الطبقي الصارم، لا سيما ان هذا الفرز الطبقي نفسه تعرض لتغيرات كثيرة في القرن العشرين وقرننا الحالي حتى في البلدان الرأسمالية الاكثر تطورا.
لكن ما تقدم لا يعني ان سبايفاك تتناول التفكيكية والماركسية والغرامشية من دون نقد، وانها تتبناها كمسلّمات (كما يفعل الكثير من الكتاب والباحثين في عالمنا العربي) بل تحافظ على مسافة نقدية، تتيح لها توجيه النقد متى تطلب ذلك. فهي، مثلا، ترى ان دريدا أخطأ في عدم تمييزه بين رأس المال الاقتصادي ورأس المال التجاري في قرائته لماركس في كتابه المعروف (أطياف ماركس). كما انها اصلا لا تتبنى الماركسية كعقيدة. فضلا عن ان توظيفها لمفاهيم "الخاضع" و"الخضوع" لا يندرج ضمن التوصيف المحدد الذي قدمه غرامشي في (دفاتر السجن). مع هذا، فان مقاربة سبايفاك لماركس يمكن توصيفها بانها مقاربة تفكيكية الى حد بعيد.
ثقافتنا والدراسات ما بعد الكولونيالية:
ما يعرف اجمالا "بالعالم الثالث" تعرض في معظمه للاستعمار وما اعقبه من حركات التحرر وصولا الى عالمنا الحالي. وبالتالي، فان الدراسات ما بعد الكولونيالية لها اهمية خاصة له، بما في ذلك لعالمنا العربي وبلادنا ايضا.
ومراجعة بحثية – اذا ما وجدت من يتصدى لها بكفاءة نظرية وتحليلية – عن تاريخ بلادنا مثلا في القرن العشرين، يمكن ان تجد في المقاربات النظرية لما بعد الكولونيالية منطلقات ومنهجيات ومادة خصبة جدا لتناول الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومواضيع الايديولوجيا، ووضع المرأة، وتمظهرات الفكر الغربي والعالمي في البنى الثقافية والاجتماعية المتوارثة، والتحولات التي جرت وما تزال تتشكل. فكل هذه المواضيع لها ارض مشتركة في البلدان التي تعرضت للمراحل الاستعمارية وما اعقبها، رغم التباينات. لكن بحوثا كهذه تحتاج الى اسس نظرية رصينة وكافية من الاطلاع والمنهجية الدقيقة والمعاصرة اذا ما اريد لها ان تواكب زمنها والتطورات الفكرية الجارية
 فيه.