الجديد في مقابر سقارة المخفية

بانوراما 2021/08/30
...

 جو مارجنت
 ترجمة: مي اسماعيل
 
على بعد نحو 32 كم جنوب القاهرة وقرب ضفاف النيل الغربية، تحيط الحقول المزروعة بالطريق الصحراوي المؤدي الى موقع {سقارة} الأثري القديم، حيث تطل أطلال اهرامات تخرج من الرمال كأسنان التنين وترشد الزوار إلى الموقع. فهناك الهرم المدرج المشيد في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، ويعود للفرعون {زوسر}؛ ملك المملكة القديمة الذي إفتتح تقليد بناء الاهرامات لتكون صروح دفن ملكية. وهناك تتناثر أكثر من عشرة أهرام أخرى قريبة تحفل ببقايا المعابد والمسارات والقبور وترسم ملامح مصر القديمة. لكن ما يوجد تحت الأرض أكثر عجبا وقيمة آثارية، عالم سفلي واسع وغير عادي من الكنوز.
فقد وجد الباحث الآثاري {محمد يوسف} وزملاؤه وسط احدى المقابر المحفورة أكواما من التماثيل، منها الإله الجنائزي المركب بتاح- سوكر- أوزوريس؛ ذو الوجه الذهبي والتاج المضفر.. وصناديق خشبية منقوشة وأكوام من أربطة الكتان المسودة. أشارت الدلائل الى أن أموات هذه المقبرة كانوا ذوي مال ونفوذ؛ كما دلّت أقنعة الجنائز المذهبة وتماثيل الحجر من خلال صقور دقيقة النحت والتزيين، وخنافس مرسومة تدحرج قرص الشمس عبر السماء. ورغم ذلك لم تكن تلك مقبرة أسرية فاخرة، كما قد نتوقع؛ إذ وجد الباحثون عشرات التوابيت الثمينة مكدسة فوق بعضها حتى السقف، وكأنها في مخزن، مع صناديق مطلية ذات هيئات بشرية فوق توابيت ثقيلة من الحجر الجيري. أما النعوش المذهبة فقد إستلقت داخل كوّات جدارية، وتناثرت العظام والسجاجيد على الأرض. هذه الغرفة المخيفة  واحدة من عدة {مدافن عملاقة}، اكتشفت العام الماضي في سقارة؛ ضمن مقبرة مترامية الأطراف كانت تخدم ذات يوم العاصمة المصرية القريبة ممفيس. كشف التنقيب عن عشرات التوابيت والمومياوات وأمتعة المقابر؛ منها تماثيل الآلهة وقطط محنطة مخزونة في عدة حفر، لم تمسها يد منذ القدم. فتحت المكتشفات نافذة للباحثين على مرحلة متأخرة من تاريخ المملكة القديمة حينما كانت سقارة في قلب النهضة الوطنية للثقافة الفرعونية. إنه موقع حافل بالتناقضات، يتشابك فيه الماضي والمستقبل والروحانية والاقتصاد؛ كخلية من الطقوس والسحر.
 
ما زلنا نُحصيها
عُرفت سقارة بالكهوف المنحوتة تحت الأرض، التي نهبها السكان ليستخدموا المومياوات في تسميد الأرض وسرق السياح محتوياتها كتذكار. لم يأخذ السراق مومياوات بشرية فقط؛ بل حيوانات محنطة: صقور وطيور أبو منجل وقرود البابون.
لم تجتذب سقارة اهتمام الآثاريين حتى زارها عالم المصريات الفرنسي {أوغست مارييت} (الذي أصبح أول مدير لمصلحة الآثار المصرية) عام 1850، وأعلن الموقع.. {مشهدا من الدمار المطلق}. لكنه لاحظ تمثالا شبه مدفون لأبي الهول، وبعد التنقيب كشف عن شارع محاط بتماثيل أبو الهول يؤدي إلى معبد يسمى {السيرابيوم-Serapeum}، وتحته أنفاق تضم توابيت لثيران أبيس، التي كانت تُعبد كتجسيد للآلهة بتاح وأوزوريس. منذ ذلك الحين كشفت التنقيبات عن تاريخ دفن وطقوس عبادة إمتدت أكثر من 3000 سنة؛ من أوائل فراعنة مصر حتى آخر أنفاس الامبراطورية الرومانية. رغم ذلك بقيت سقارة مختفية تحت ظلال بريق الأقصر الى الجنوب؛ حيث غطى الفراعنة في الألفية الثانية قبل الميلاد جدران قبورهم برسوم عن العالم الآخر، والأهرام الضخمة شمالا. أخيرا جاء {مصطفى وزيري}؛ الآثاري الذي عُيِّن مديرا للمجلس الأعلى للآثار المصرية عام 2017، ليخلف مارييت في ذلك الموقع. وبات على عتبة فرصة رائعة أخرى؛ قائلا: {أدركت أنني على بُعدِ ساعة من مكتبي الى سقارة!} إختار {وزيري} التنقيب قرب معبد بوباستيون الغامض، المكرس للآلهة- القطة {باسيت}، المنحوت في جرف صخور الكلس منذ 600 سنة ق.م. وعثر فريق تنقيب فرنسي منذ سنوات هناك على قبر {مايا- Maia  { مرضعة الملك توت عنخ آمون (القرن 14 ق.م.)، لكن وزيري استهدف منطقة اعتاد الفريق الفرنسي على إلقاء أنقاض تنقيباته فيها؛ مراهنا على فكرة أن ما يقبع تحتها لم تصله يد بعد.
أتى نهج وزيري ثماره؛ إذ أعلن أواخر سنة 2018 عن إكتشاف مقبرة منمقة لم تُمس لكاهن، وعددا من الحيوانات المحنطة، منها (للمرة الأولى) مومياوات لقطط وكوبرا وشبل أسد ونمس وخنفساء الجعران. وبعد سنتين عثر على سرداب مليء بالتوابيت. يقول: {اتصلت بوزير الآثار لأبلغه عن الاكتشاف، فسألني: كم عددها؟}.. وبعد ثمانية أشهر كان وزيري ما زال يحصيها!
 
المكان المناسب للدفن!
لم يسبق اكتشاف هذا العدد الكثيف من التوابيت والمومياوات مجتمعة في مكان واحد، فهو دفن جماعي بمقياس عالٍ، يمثل مرحلة تحول في الحضارة المصرية. في المملكة القديمة (الألفية الثالثة قبل الميلاد، زمن الملك زوسر) كان علية القوم يفضلون الدفن ضمن مقابر أسرية خاصة منحوتة في الصخر، تضم أنفاقا مخصصة لأفراد معينين ومعبدا فخما منحوتا فوق الأرض يضم نقوشا وصورا لأصحاب القبور. وبعد نحو ألفي سنة بات المصريون الاثرياء يُدفنون في مواقع مشتركة مزدحمة.. فما الذي دعا أشخاصا يمكنهم شراء توابيت باهظة الثمن للاكتفاء بمستقر أبدي مكتظ؟ يعتقد عالم المصريات {أديان دودسون} من جامعة بريستل البريطانية أن هذا بات أمرا روتينيا خلال المرحلة المتأخرة من المملكة القديمة (نحو 1000 ق.م.)؛ إذ أصبحت القبور المشتركة أمرا حتمته الحاجة الاقتصادية بعدما واجهت المملكة فترة من الاضطراب والانهيار. وحينما استعاد الملك {بسماتيك الأول} النظام في القرن السابع ق. م.؛ استمر ذلك الأسلوب في الدفن. أما {كامبيل برايس} من متحف مانشيستر فيرى أن التبرير يرتبط بأهرام منطقة سقارة؛ إذ كانت تلك المقبرة دائما مركزا للطوائف الدينية منذ وقت دفن أوائل الملوك والمتنفذين فيها؛ غالبا في  قبور واطئة مسطحة السقف تسمى {مصطبة}. وللمساعدة في توحيد البلاد بعد الأوقات المضطربة؛ شجع بسماتيك على إحياء الطقوس والمعتقدات التقليدية. في ذلك الحين كانت مبانٍ مثل هرم زوسر المدرج قد بلغت عمرا قدره آلاف السنين، وآمن الناس أن من بناها (مثل زوسر ومعماره {إمحوتب}) هم أنفسهم آلهة. نشأت الطوائف والمعابد، وكان الحجاج يجلبون القرابين ويتنافسون على أماكن دفن لهم ولأسرهم بالقرب من المقابر القديمة المقدسة. هذا خلق ظروفا لازدهار العمليات التجارية تزامنا مع الدوافع الروحية؛ نتج عنها نوع من السوق العقارية للموت. وتنوعت طرق الدفن داخل الانفاق المزدحمة، من صناديق خشبية بسيطة الى نووايس حجرية، مما يعني تنوع الطبقات الاجتماعية المدفونة معا؛ فكان الموظفون الكبار والعسكريون يدفنون قرب الأهرام المقدسة في مقابر كبيرة، أما الفقراء فدفنوا غالبا قرب الصحراء. يقول برايس: {كانت سقارة المكان المناسب ليرقد الميت فيه؛ فقد كان لديه هذه الطاقة الإلهية الخارقة التي من شأنها أن تساعدك على الدخول في الحياة الآخرة. وإذا أردت مكانا قرب الطاقة السحرية لآلهة سقارة واحتفالاتها؛ فعليك شراء مكان لدفنك في أحد الأنفاق}. 
موقع {سميثسونيان}