لا نجافي إذا ما قلنا أن الشاعر " علي فرحان " في مجموعته الشعرية ( ليل سمين ) استطاع أن يمدّ رؤاه على وفق مسارات متماوجة ، إذ / يسلط الضوء على تلك المديات الضاغطة محاولاً من خلالها أن يرتبط ارتباطاً روحياً وجسدياً بكل المكونات التي لم يستطع أن يفلت منها ، لذا نجده يستلهم ما حوله - سلباً او ايجاباً - فكرة للنص ، لتكون اشتغالاته في دوائر الحرب / الوطن ، وما تركته من لزوجة على اجسادنا وأعمارنا المتخمة بها ، لتضيع أحلامنا في دهاليز الحياة ومعتركها ، في تخوم اليأس والحزن، والمدن التي تكتظ بالموت والدمار ، ومن الملحوظ على الشاعر ، أنه لم يعتنِ بالحبّ والجمال حدّ الافراط ، لأنه مثقل بأعباء الوطن ، مثخن كغيره بجراحات لم تهدأ إلا وبراكين الوجع تقضم ما تبقى
له ...
العنونة
تعد عنونة المجموعة الشعرية " ليل سمين " للشاعر علي فرحان ، وبما تحمله من تركيب استعاري ضاغط ، فهو بتركيبته الاسمية يوحى الى فداحة أمر ما ، أمر ثقيل لا يمكن ابصاره ، لما يطغى عليه من سوداوية لون الـ ( ليل ) وترهل التوصيف ( سمين ) وهاتان المفردتان منحتا المجموعة بعداً ايماجياً ناضجاً في اقتفاء أثر المتن الذي سيمنحنا رؤية أكثر بعدية في الكشف عن كل ما يدور في فضاءات الخطاب المرسل فيها ، هي وحدها اصبحت نسقاً غاصّاً برمزية تشفيرية ، الليل / ترميز زمني اضافة الى الترميز اللوني المظلم روحياً حيث يضعنا في حالة نفسية خاصة مقعّرة بين طوله الغاصّ بالقلق والهمّ واليأس حسب رؤيتنا الخارجية وبين رؤية داخلية / أن الليل هذا هو من متعلقات الذات الشاعرة حيث توحّدت فيه كل السوداوية اللونية ، ليقع فريسة انكماشات خانقة لا يمكنه أن ينفلت منها بسهولة.
أما مفردة ( سمين ) دلالياً تشير الى بروز تراكمات خارجية هي ملائمة جداً مع مفردة ( ليل ) ، اذ / يعقد الشاعر علائقية واضحة فيما بينهما ، الشاعر " علي فرحان " مُدرك جمالية العنونة وبما تحمله من ثقل دلالي فادح إلا انها كانت محفزاً ضاجاً بغرائبية التصوير .
نلاحظ كيف يتعامل الشاعر مع مفردة - الليل - نصياً في قصائده حيث وردت في :
ليل سمين/ يزدرد النساء في الشرفات ... ( نجوم نحيلة / 05 )
ليل نحتمل فوانيسه ونعرج لنهار ثقيل .... ( نجوم نحيلة / 06 )
على ليل يفرّط بسواده.. ( كثيرا ما ندمت / 12 )
فالليل يسلمهم لليل... ( محو / 59 )
سئماً مني، من المارة البلداء/ من بلاد تحتسي الدم في الليل... ( إقبال رحمة الله / 66 )
بليل يتلوه ليل/ وليل/ وليل ..... (طلب ايواء / 92 )
وهم يدفعون الليل بتذكراتهم ... (شجرة الغرقى / 95 )
أنت يا من كلك سعادة/ كلك ليل مثقل بالزنازين ... ( أرملة في اعالي الكلام / 99 )
ادفنهن واصعد في الليل/ أقلّ مما يجب كان بصاقك على المركبات الحربية...... ( أرملة في اعالي الكلام / 101 )
المسار النصيّ
من يقرأ نصوص هذه المجموعة يجد أن الشاعر حدّد خرائط لمساراته التي يسير على وفقها ، حيث تراكمات النفس الداخلية هي الضاغط البارز في تمظهر معالمها ، إنها رهانات عالم مملوء بمخلفات كبيرة ، يوميات تهرول الينا على الرغم مما تحمله من عطبٍ وانهزامية حدث قسري ، هي تفتح لنا مرسلات فائقة الجودة في الكشف عمّا تخبئه فينا، " علي فرحان " استطاع ، بما يراه هو أن يضعنا أمامها مباشرة دون الحاجة الى اللهاث ورائها ، انها مساقط الجسد المتعب في زوايا الحياة
ومفترقها،
أحدّق في نجومه النحيلة وأحفن حنطة الفراغ/ مكوّما أرغفة الغد تحت ارجل البورصة ...(نجوم نحيلة
/ 05)
لم يكُ يحمل في مخيلته سوى بصيص خافت لمعالم لم تتضح له إلا بقراءة طالع محو الغد رغم مراهنات الحياة ، فالشاعر يعي خطورة ما يراه من ضياع وتشتت ، لذا / مال الى استخدام جملتين تتفقان دلالياً: ( أحدق في نجومه النحيلة // وأحفن حنطة الفراغ) ، لما لهما من بعد بؤري في مقاربة المسح التشفيري ما بين ( النجوم النحيلة / حنطة الفراغ) فكلاهما قد يؤديان الى منحى اتساقي موحّد.
ان الالتصاق المفرط لدى " علي فرحان " يحيلنا الى تتبع مساراته الدلالية حيث أنه شديد الالتصاق بمفردات حياتية غارقة ، مما جعلها تترك داخليا جملة من الانطباعات المتجسّمة والموشومة بتمظهرات تقنية البوح التفاعلي / المشحون، لقد أظهر لنا الشاعر تلك المسارات وعلى وفق نمطية التأشير التتابعي ، حيث :
(الحرب / الجنرالات والجنود / الموت والشهيد وشواهد القبور / الوطن والفراغ / والحزن / والزنازين / والسماسرة / وموت العالم والمدن الهزيلة....) كانت شواهد عيان له ، يبحث من خلالها عن مخارج للانفلات منها لكن دون جدوى .