المرويات الشفاهيَّة بين المحكي والأسلوب

ثقافة 2019/02/26
...

  د .سامي علي جبار
 
 
للشعوب تراثٌ شفاهي أصبح مادة لعلوم شتى كالانثروبولوجيا، وما يعرف بعلم الأنسنة والفلوكلور، اوالتراث الشعبي والعلوم الإنسانية كاللهجات والأساطير والخرافات والسرديات...وقد ترجمت إلى العربية كتبٌ تعنى بالشفاهية والكتابة او الكتابة والشفاهية أمثال (الشفاهيَّة والكتابة) تأليف والتر ج.أونج بترجمة الدكتور حسن البنا عز الدين و(الكتابية والشفاهية) تاليف ديفيد ر. أولسن ونانسي تورانس ترجمة صبري محمد حسن .. وغيرهما وعني دارسون عرب بالحكاية الشعبيَّة والحكايات الخرافيَّة ترجمة وتأليفا، ومنهم د.نبيلة إبراهيم واحمد رشدي صالح وآخرون.. وفي وقت مبكر عنيت مجلة التراث الشعبي العراقي بنقل الحكايات والموروث الشعبي سواء باللهجات المحلية أو صياغتها باللهجة الفصيحة. ولعل في تدوين الموروث الشفاهي فائدة كبيرة في المحافظة على ذاكرة الشعوب وربط الماضي بالحاضر لما لهذه الموروثات من قيمةٍ تراثية اجتماعية وأخلاقية وما تتضمنه من حكم ومواعظ وخبرات حياتية وتجارب واقعية. 
 
الموروث الشعبي
ويحمد للشاعر الباحث التراثي علي نكيل أبو عراق أن خصص جملةَ مؤلفات للموروث التراثي الشعبي مثل عراقيات...(مقامات النخل 2010) .. (ومقامات الماء 2012) ، و(شفاهيات مرويات عراقية جرت على الشفاه 2015)، ومرويات شفاهية من الموروث العراقي 2017) . تجتمع في هذه المؤلفات جملة خصائص : منها الاهتمام بحكاية هذه المرويات، وصياغتها بأسلوب أدبي شاعري، وتوظيف الطاقة السرديَّة في جعلِ (ثيمة) الحكايات مادةً سرديَّة باسلوب يوازي طاقةَ الحكاية ويفوقها في إضفاء المخيلة  السردية في نقل الحكاية من المحلية الى البعد الانساني كما فعل كبار الساردين أمثال تشيخوف وغيره.. واذا استعرنا من علم السرد مصطلحي (السارد) و (السارد العليم) و (الراوي ) و(الراوي العليم) فان المؤلف هنا يجمع المصطلحين في إثناء نقل الحكايات وصياغتها بأسلوبه الخاص . فالمعروف أن الروايةَ الشفاهية تخضع لعاملين : أولهما أصلُ الرواية كما حدثت في الواقع, وثانيها : نقل الرواية وطريقة روايتها، ولعل من كثرة الرواة تنشأ طرائقُ وأساليب مختلفة , أبرزها لهجة الراوي باعتبار نشأة الحكاية في بيئة محلية ولكن تظهر في النقل أساليب مختلفة من الزيادة والنقص والاعتبارات الاجتماعية والتقاليد السائدة . ولاشك في ان الرواية الشفاهيَّة تكون أكثر دقة ودلالة فيما لو نقلت بلهجتها المحلية، وهنا  تبرز قضية الأداء والنطق المباشر بما يحمله من أدوات التنغيم فضلا عن صورة الراوي في اثناء الرواية ، وحين تتحول الرواية الى الكتابية تفقد ابرز خصائصها : الأداء الحي بلهجتها الأصلية العامية ، فاذا تحولت من العامية الى الفصيحة فقدت ابرز عناصرها الأدائية وتحولت الى صورة الحكاية , وليست الحكاية في أصلها المنطوق. وقد حرص المؤلف على أن يصوغ الموروث الشعبي باسلوب الفصيحة المعاصرة, مع أضفاء طابع الأدبية والشعرية في صياغة الحكايات والتعبير عن روح الحكاية بما يحافظ على المدونة ليفهمها المتلقي بلغة أدبية عالية الجودة .
وفي أثناء الصياغة يضمنها نصوصا من الموروث نثرا وشعرا , ويجعل العنونة(نصيصا) أو , ثريا تختصر النص.
ويبرز مصطلح (الراوي العليم ) في احاطة المؤلف بالفضاء البيئي لأصل الحكاية، ويظهر ذلك جليا في معرفته باحوال الناس وجزئيات البيئة ، فضلا عن الايجاز الذي يكون محور المرويات والهدف من تدوينها. 
 
بين السارد والباحث
وتبرز الاهداف في تحول المؤلف من مدون وسارد الى باحث في احيان كثيرة ، ولا سيما في تحول المدونة من الرواية الشفاهية الى الكتابية وتوظيفها لأغراض بحثية ، كما في معالجة قضايا الأعراف العشائرية ، وقضايا المرأة من زواج وحب وعمل وحقوق ..الخ  وبذلك تتفاوت صفحات نقل الرواية حتى تتحول أحيانا الى بحث، ينسى من خلاله المؤلف وظيفته في تدوين المرويات الى باحث اجتماعي او محلل سياسي ، مستطردا حيثما اتاح له القول أن يعقب أو يحلل كما في (حميّد يامصايب الله)  و(خويه اكوم أعينك) وغيرها من العنوانات التي لا تخفى عن القارئ،  ونعود الى لغة المدونات الشفاهية ومشكلة ثنائية العامية والفصيحة ، فبالقدر الذي نعجب بأسلوب المؤلف في صياغته الأدبية والشعرية، قد نؤاخذه في مصادرة نقل الروايات بلهجتها المحلية، وهذا الأمر يحيلنا الى قضيتين :  الأولى : ان هذا الموروث في أصله تراث شفاهي عامي , ينتمي الى لهجات بيئات معروفة أهمها لهجة سكان الأهوار خاصة والأرياف بصورة عامة ، أي أنه لا ينتمي الى لغة الحضر اوسكان المدن ... وهنا نستحضر عدة محاولات في نقل المرويات الشفاهية المحلية في بلدان مختلفة، وقد عمل بعض الاجانب على تدوين المرويات الشفاهية المحلية بلهجاتها من أجل دراسة الظواهر اللهجية لهذه المرويات، وسكان البيئات المنتجة لهذه المرويات ، وقد قلدهم في ذلك بعضُ العرب , ومنهم الاب انستاس ماري الكرملي الذي خصص كتابا كبيرا دوَّن فيه مروياتٍ شفاهية بلهجة أهل بغداد على شكل قصص وحكايات سمعها ودونها باللهجة البغدادية . والقضية الثانية : إن هذه المرويات التي دونها المؤلف هي أقرب الى (التعريب) أو (التفصيح) اي: رواية الشفاهية بالعربية الفصيحة، على الرغم مما تتخللها من عبارات باللهجة المحلية , فضلا عن عنواناتها العامية وغالبا ما يكون بيتا شعريا باللهجة العامية .