أجراس روايَّة مابعد الحرب

ثقافة 2019/02/26
...

محمد رشيد السعيدي
 
 
قد يكون الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر هو المؤسس لجنس رواية مابعد الحرب في الرواية العربية، بروايته الشاهدة والزنجي (بغداد، 1988)، ولكن هذا الجنس لم يصبح ظاهرة في الرواية العراقية، ولا العربية، على الرغم من تمتع العراق وبعض الدول العربية بحروب خارجية وداخلية مدمرة، ويلاحظ عدم ظهور هذا الجنس الروائي بعد نكسة 1967، ربما بسبب الأفكار الثورية والتحررية والتقدمية، التي كانت سائدة آنذاك، وقد تكون الرؤية الثاقبة لمهدي عيسى الصقر، فضلا عن الخصوصية العراقية، هي السبب في ميلاد هذا الجنس الروائي. ويبدو ان الروائي الارتري حجي جابر مهتم بإنتاج روايات مابعد الحرب، فرواياته منشغلة بما تركت الحرب على كاهل الإنسان من أثقال، ربما ستقول رواياته في نهاياتها أن تلك الأثقال لن تزول، بل ربما ستكون سببا في زوال هذا الإنسان، في موته أو انكساره الدائم، قد تقول وصل الأمر الى مرحلة اللاحل!
فتأتي روايته الرابعة (رغوة سوداء)، الصادرة عن دار التنوير في القاهرة سنة 2018، والتي لم تصل الى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2019، صادمة في عنوانها، ومختلفة عن (سمراويت) للمؤلف عينه، ذات التنويع اللفظي على سمراء، من رقة التناول، الى استظهار الجماليات الباذخة للغة! الفرق واضح بين سمراء وسوداء، في موضوع لم يشكل ظاهرة في الأدب العربي أيضا، وهو العرب ذوي الأصول الإفريقية، أو العرب سمر البشرة، ومع أنهم أبطال روايات حجي جابر، لكنه إذ يقدمهم لا يجعل من سواد البشرة، ولا العبودية، موضوعا رئيسا، إن موضوعه الرئيس هو الشخصيات المقهورة، أو قسوة الحياة على الإنسان، وتبعات مابعد الحرب خاصة، ومقاومة الإنسان لها!!
     
ابناء الحرب
لقد اختار المؤلف لروايته بطلا يحمل ميزة فريدة، إن لم تكن فريدة في الواقع، فهي فريدة في التناول الأدبي، هو داويت، المنتقل من داود عبر ديفيد، أو من أدال، الذي هو (فري قدلي)، أي انه "أحد أفراد ثمار النضال"/ ص83، الذين هم أطفال غير شرعيين لجنود جبهات القتال! قهر أصيل، بل قهر مركب، ولادة الإنسان غير شرعي، بلا ذنب، لا: انه يولد بذنب كونه غير شرعي، وبسبب الحرب، فقد تكون اللاشرعية هي مواليد الحروب!! لا يعاني أبطال روايات حجي جابر من بشرتهم، وإن مرت الرواية بهذا الأمر، إذ نودي داويت بـ "يا عبد"/ ص48، من قبل ذوي بشرة سمراء، لكن هذه المعاناة لم تكن ثيمة الرواية، بقدر ما كانت آثار الحرب المدمرة على الإنسان، وما تؤدي اليه من قهر، وباستثمار موضوع الهوية، مؤكدة على الهوية الفردية، الوجودية، لا الإثنية، فيتحول أدال ثمرة النضال، الى داود قبالة عائشة! ثم يتحول الى ديفيد، طمعا في الهجرة الى بلد ثالث – بعد ارتريا وإثيوبيا – أوربي مسيحي، ثم ينتقل الى داويت، التي هي ربما التصريف الإفريقي لداود، لماذا كل هذا؟ للنجاة، وللنجاة فقط! ليست لديه أية رغبة بتحول ديني أو اثني، لا اهتمام لديه بانتساب الى إثنية معينة، أو إن تلك الأفكار لا تراود الإنسان الباحث عن النجاة فقط، فالإنسان المفتقد لأبسط شروط حياته الإنسانية لا يمتلك القدرة على التفكير بتلك التفاصيل.
ذلك الاختيار الفريد والقاسي، لن يكون نهاية الشوط في الرواية، لأنها ستذهب الى موقع أبعد، موقع بعيد في السردية العربية، لكنه ربما ليس كذلك في مناطق أخرى كإرتريا أو إثيوبيا، سيضطر ابن النضال أخيرا الى أن يدّعي انه من يهود الفلاشا؛ لأنهم يحصلون على امتياز الهجرة الى إسرائيل، بعد السكن والأكل – في المخيم – المفتقَد من قبل البعض، وهو لا يعلم أن يهود الفلاشا هو اصطلاح لا يرضي المطلق عليهم، فهم يطلقون على أنفسهم (بيتا 
إسرائيل). تعتمد الرواية على تقسيمات مرقمة، وتقسيمات أخرى بفواصل إخراجية، ولا تتبع المسار الزمني الطبيعي، بل تستثمر تقنية المونتاج والاسترجاع بكثافة وجمالية، ولا تبدو بعيدة عن كونها رواية (سيرة شخصية)، لورود ما يؤكد ذلك في النص: "لروح الشاب الارتري (هبتوم ولدي ميكائيل زرئوم) كُتبت هذه الرواية"/ ص 251، في نهاية الفصل (29) الذي يبدو ملصقا بالرواية، لأنه أقرب الى التوثيق، معززا بالتاريخ والخاتمة التوضيحية السابقة.
     والملاحظة التي تفرض نفسها هي: إن روايات حجي جابر زاخرة بقصة حب، قد تأخذ حيزا معينا، وقد تكون الموضوع الأساسي، مثلما حصل في رواياته الثلاث السابقة، على العكس من الرواية العراقية التي تفتقد الى قصة 
الحب!