لا شيء في حياة الانسان بدون ضريبة, ولعل أسوأها هي ضريبة العمر, لأنها استحقاقات واجبة الدفع من الصحة والعافية والسمع والبصر والذاكرة, ولا سبيل للتخفيف من وطأتها ولا حيلة قانونية لتقطيعها, ولذلك يدفعها مكرهاً وهو محاط بالآهة والحزن والحسرة.
اما وقد بلغت من العمر ما جعلني أدفع أُولى الضرائب , وآتيات الايام لها وقع أشد أذى حين اكون مطالباً بدفعها كاملة مع فوائدها , فقد كان عليّ ملازمة البيت, لانها السبيل الوحيد الى الراحة والتخفيف من عبء الضريبة, غير ان هذه الملازمة بحد ذاتها مقرفة وتعدُّ كما جربتها أسوا انواع الضرائب... وكان عليّ التخفيف من ذلك القرف والملل والايام التي تبدو اكثر شبها ببعضها البعض من التوائم السيامية, ولم أكن أمتلك وسيلة سوى مجالسة التلفاز, وبفضل النعمة التي أنعمتْ بها التكنولوجيا علينا, فأن أجهزة التلفاز الحديثة تضم مئات القنوات التي يمكن التنقل بينها واختيار ما يناسب ثقافتنا.
أحمد الله لأنني اهتديت إلى الحل الذي يساعدني على دفع شيء من الضريبة, والخروج من متاعب الضجر والقرف والملل التي يمكن ان تقود الى الكآبة, ولكنني وجدت نفسي في مواجهة جديدة مع المتاعب , لان مئات المحطات التلفازية التي تنقلتُ بينها كانت تعرض افلاماً وتمثيليات ومسلسلات عربية واجنبية وهندية, سبق عرض كل واحدة منها عشر مرات في الحد الادنى, كما سبق لي أن رأيت كل واحد من تلك الاعمال ثلاث مرات او اربعاً وحفظتها عن ظهر قلب ... فما العمل؟
قررت العودة الى فضائياتنا العراقية, وكان ذلك على وجه الدقة ومن باب الامانة , في اليوم الذي تم فيه اقرار الموازنة, وكذلك على مدى اسبوع كامل, حيث كانت الموازنة هي بطلة الشاشة بلا منافس, فالفضائية (أ) استضافت ثلاثة بين نائب ومحلل سياسي, ورابعهم خارج الاستوديو عبر الاقمار الصناعية, والاربعة ينتمون او يناصرون هذه الكتلة البرلمانية الكبيرة او تلك, قال أحدهم, الموازنة الحالية تعادل موازنة اربع دول من دول الجوار, وهي الاضخم في تاريخ العراق , ولكنها الأسوأ , وعلق الآخر , إن كلمة الأسوأ وحدها لا تكفي, ولم يكن الاثنان الاخران أقل انتقاداً ونقداً, اما الفضائية (ب) فاستضافت في الاستوديو أربعة, وخامسهم من الخارج, وكشفوا عبر الحوار والاسئلة, عن حجم الاخطاء الكارثية(على حد تعبيرهم) التي وقعت فيها الموازنة, وانها ستقود بالضرورة الى موازنات اكثر كارثية في المستقبل... نائبان كانا في ضيافة الفضائية(ج) حيث تحدثا بالأرقام عن ابتعاد الموازنة كلياً عن تلبية احتياجات البصرة وحل مشكلاتها, اما النواب الاربعة على فضائية(د) فطالبوا باستدعاء خبرات اقتصادية عالمية لمواجهة الاوضاع الاقتصادية والمعاشية المتردية, وواقع الخدمات والبطالة... الخ, التي عجزت الموازنة عن ايجاد حلول او حتى أنصاف حلول لها... في الايام التي أعقبت الموازنة لم يكن الموقف قد تغير, فعشرات الضيوف يتقدمهم البرلمانيون, قالوا كلاماً مفزعاً يخص مستقبل أولادي وأهلي وشعبي, ولهذا صرخت (أيها السادة... لماذا لم تعترضوا عليها أذن ولماذا سمحتم بتمريرها؟ هل أصبحت الفضائيات بديلاً عن قبة البرلمان؟). أعرف أن لا أحد يسمعني ولكن لابد من أتخاذ موقف!!