ثلاثية الأنصاري

الصفحة الاخيرة 2021/09/17
...

جواد علي كسار
كان كتاب «تحوّلات الفكر والسياسة في الشرق العربي» هو أول لقاء جاد مع المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري (معاصر، ولد: 1939م)، ثمّ دامت الرحلة مع بعض كتبه الأخرى إلى أن استقرت مطوّلاً عند كتابه الأطروحة: «الفكر العربي وصراع الأضداد». فعلى امتداد مئات الصفحات أفاض الأنصاري بتقديم صورة وصفية لحركة الفكر العربي الحديث في أبرز تياراته واتجاهاته، تحدّدت في منظومة ثلاثية أضلاعها التكوينية، هي السلفية والعلمانية والتوفيقية، لكن مع استطالة وهيمنة للتوفيقية، إذ عُدّت الأخيرة سيّدة البوصلة الفكرية في أبرز تيارات هذه المنظومة، والمؤشر الحاسم على المواقف في الفكر والسياسة والاجتماع، بعد أن استطاعت إزاحة أو تهميش السلفية والعلمانية، وأن تتبوأ قلب المشهد فكرياً وعملياً.
لم تكن المؤشرات الثلاثة لحركة الفكر في الواقع العربي الحاضر وليدة الساعة، أو أنها جاءت نتيجة لما يُطلق عليه «عصر النهضة العربية» أو «صدمة الحداثة» والتعرّف على الغرب، بل كان امتدادها العميق ووجودها العريق في الحياة الفكرية للمسلمين والمراحل الأولى من تاريخ مسارهم الفكري، ففي نطاق التحليل التاريخي أعاد الأنصاري الجذور التأسيسية لهذا التكوين الحديث، إلى جدلية مماثلة في تاريخ الفكر الإسلامي نفسه، استقرّت لديه عند ثلاثة أنماط أساسية، هي النمط الأصولي النصوصي السلفي ومرجعيته النقلية، والتوفيقي الذي وظّف العقل إلى جوار النقل ورام التوفيق بين المعقول والمنقول والوافد والأصيل، ثمّ نمط ثالث منجذب كما يرى، إلى مؤثرات خارجية ذات طابع باطني عقلاني، أو طابع عقلاني دهري إلحادي، كما يقول.
في مسار استكمال هذه الأطروحة، لاحظ الأنصاري أن هذه الأنماط التاريخية الثلاثة من الفكر استوطنت جغرافياً في بيئات ثلاث، فكانت البادية والريف والأطراف النائية في العالم الإسلامي هي حاضنة السلفية، في حين نشأت التوفيقية وازدهرت في العواصم والأمصار ومناطق العمران ومراكز التجارة والتبادل الحضاري، كما كان من دأب النمط الفكري الثالث أن ينبثق من داخل البيئات ذات التكوين الحضاري المتصلّب الذي يأبى الانصهار في الكلّ الإسلامي، فيقاومه بفكرٍ متزندق أو رافضي أو خارجي أو عقلاني متحرّر، وهذا النمط يسود في الأغلب لدى العناصر الإنسانية ذات الخصائص الدينية والعرقية المناهضة عامة للإسلام العربي، على حدّ توصيف الأنصاري.
ثلاثية الأنصاري هذه هي غرار تصنيفات كثيرة أُخر في الفكر العربي المعاصر، بحاجة إلى التأمل والمراجعة والتقويم.