تكاليف الحرب غير المنظورة إعلاميا

بانوراما 2021/09/17
...

   لورين عالي
   ترجمة: بهاء سلمان 
تجمع عدد من التجّار والعمال حول جهاز تلفزيون قديم داخل كشك متداع وسط سوق خان الخليلي بالقاهرة، حينما كنا أنا وصديق لي نتمشى عبر السوق خلال زيارتنا لمصر أواخر صيف 2001. كانت الصورة مشوشة، مع تعطل الصوت؛ بيد أن الصور مزقت السكون: طائرتان ارتطمتا بناطحات سحاب، وامتلأت خلفية الشاشة بصور ألسنة النيران الهائلة.
«أين يحدث هذا؟»، سأل أحد الصبية بإلحاح، «فلسطين». لم يكن الرجال يعرفون أين الحادث؛ لكنني كنت أعرف، وأخبرتهم أنه مركز التجارة العالمية بمدينة نيويورك.
 
حدّق الجميع بي لدقيقة، باحثين عن قرينة لسياق الكلام، لكن المكان لم يعن لهم شيئا، فالهدف لم يكن معلما عالميا، ولا (منارة دولية للحرية) في نظرهم، رغم وصفه بهذا الشكل لاحقا من قبل خبراء مكافحة الإرهاب عبر وسائل الإعلام الأميركية. الشيء الوحيد الذي بدا أن المحللين العرب عرفوه هو إشعال أحدهم لحرب ما، والمرجح دفع الشرق الأوسط لثمن ما جرى.
وأنا كأميركية مسلمة، علمت أنني أدفع الثمن أيضا.
جسدت الفروقات الصارخة بين كيفية تغطية ذلك اليوم المروّع على شاشات التلفزيون لمناطق ما وراء البحار وداخل الولايات المتحدة الفجوات الثقافية الفاصلة بين الشرق والغرب، حيث ظهرت هاوية ستتسع على مدى العشرين سنة القادمة. وبالنسبة لي تكونت مهنتي الصحفية من داخل تلك الهوة، انقسام بين مآخذ متنوعة بشكل كبير على الحدث نفسه، يوم رهيب لا أستطيع نسيانه وتحريره من تفاصيل حيّة باقية في الذهن.
تم استكشاف ذلك اليوم الثقيل الوطأة من كل زاوية ممكنة، بضمّنها قصص أولئك الذين فقدوا حياتهم، وتاريخ مركز التجارة وأكثر من نظرة للانطباعات التي ترسّخت داخل مخيّلة أطفال تلك الفترة. الآن هم بالغون، وبضمنهم من مات آباؤهم في الهجمات، ومن كان داخل الصف المدرسي يصغي للرئيس جورج بوش الابن، وهو يقرأ لهم نصوصا من كتاب اسمه «الماعز الأليف» حينما قوطع بسبب الأخبار العاجلة.
 
تهويل إعلامي
الفقدان الحزين أمر خطر، والحاجة الدائمة لفرض منطق للسلوك الأخرق كالذي ارتكبه أتباع أسامة بن لادن ممكن تفهمه. مع ذلك، لا يزال من الصعب استيعاب التقديس الإعلامي المستمر للهجمات بعد خوض حربين خاسرتين، وموت الآلاف وتهجير ملايين الناس. لست متيقنة إن كان هناك «سبيل صحيح» لمعالجة الدمار العميق جدا، مع مثل هذه التداعيات الباقية، لكن الإنسحاب الأميركي الأخير من أفغانستان كان تذكيرا صارخا بأن إعادة التذكير بأحداث 11 أيلول، وكأنها مقدمة، كما حصل مع أحداث بيرل هاربر لشن الهجوم الأميركي على اليابان.
صورة آخر جندي غادر مطار كابل تم نشرها إعلاميا، رجل وحيد صوّر بواسطة عدسات رؤية ليليلة. لم يكن هناك استعراض بالنصر في نهاية حرب شنت لاقتلاع الإرهاب، لكنها انتهت بعودة طالبان إلى السلطة. وكانت النهاية غير الملائمة للحملة، والذكرى السنوية المتلفزة للحدث الذي أطلقها، بمثابة نهايات صفحات غير مهيأة لإطلاق حرب شنتها أميركا، فهي تسرد قصة بطريقة عكسية، ومليئة بلحظات عملت بشكل لا رجعة فيه على تغيير حياتنا، نحن الأميركان، برمتها.
كان العقدان الماضيان هما الأصعب عليّ كصحفية وابنة مهاجر ترك نظام بلده الأم القبلي وراءه مقابل الوعود الواسعة لحياة الغرب. كان من الصعب عليّ الدفاع عن ميولي ومعتقداتي وإخلاصي لأبناء بلدي. وخسرت وظيفة صحفية بمستوى عال، وأصدقائي، وإلى حد ما هويتي وثقتي بنفسي، لكنها لم تكن شيئا يذكر مقارنة بما خسره أقاربي ما وراء البحار. لقد تناثروا بسبب الحرب، ولأجل أن ألتقيهم لاحقا سافرت عبر الشرق الأوسط: الأردن وسوريا والامارات، وبغداد التي لم تكن آمنة بما يكفي لكاتب لم يكن مدرّبا على أخطار كتابة التقارير الحربية.
 
حرب طويلة
شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها حربا بنيت على معلومات استخبارية خاطئة ضد بلد لم تكن له أية علاقة بهجمات 11 أيلول، تحت راية الدفاع عن العالم الحر من هجمات إرهابية أخرى. أخبرت أقاربي بمشاهدتي لما حصل تلفزيونيا من شقتي في بروكلين، وكانوا هم كل ما فكرت فيه، والأحياء السكنية التي قضيت فيها الإجازات الصيفية. ماذا فعلوا كي يستحقوا المزيد من الأذى والمعاناة بعد حروب صدام الطويلة، والعقوبات الأميركية ووحشية النظام السابق؟.
وحتى بعد الإمساك بصدام من قبل القوات الأميركية بعملية أطلق عليها اسم «الفجر الأحمر»، لم تتناول أخبار محاكمته عن جرائم الإبادة وإعدامه سنة 2006 إلا قليلا جدا من قبل وسائل الإعلام الأميركية، والمرجح أن يكون السبب أنها لم تكن متسقة مع منهج اميركا الإعلامي، وذلك النوع من النهايات لا يتناسب مع الرواية المهذبة للديمقراطية الأميركية.
من المنظور الأميركي البحت، تم الإيفاء بهدف الحملة الأميركية في أفغانستان أواسط العام 2011، حينما انكشف مخبأ بن لادن في باكستان لدى المصادر الاستخبارية الأميركية وتم القضاء عليه من قبل فرقة خاصة تابعة لقوات المارينز الأميركية، قامت بنقل جثته معها وأرسلت لقطات للعملية التي صوّرتها كاميرات الجنود المنفذين للهجوم إلى أميركا. ومع تهليل بسيط للعملية خارج البيت الأبيض، لم يكن هناك إستعراض لتكريم منفذي العملية، ولا صورة معتادة لما أطلق عليه عبارة «المهمة أنجزت»؛ ولم يتم مطلقا التعريف بتنظيم القاعدة كعدو واضح بشكل كاف لكي يتم دحره. لكن كانت هناك تقارير عن فروع جديدة لهذا التنظيم، وكانت مجاميع عصابات «داعش» الإرهابية تلوح في الأفق، وبقي منظرو التحليلات السياسية يصرون على أن العقل المدبر لم يمت، وإنما يتحصّن في أحد الكهوف ليضع خططا لحركته القادمة.