تحولات الخطاب الانتخابي لدى الأحزاب العراقية

ريبورتاج 2021/09/19
...

  د.عبد الخالق حسن
مثل الخطاب اليوم، بجميع تفصيلاته، مجالا مهماً من مجالات الدراسات الإنسانية التي تبحث في كيفية فهم النص فهماً أولياً، ومن ثم الانطلاق نحو فهم المقاصد الكبرى التي تختبئ خلف أسوار اللغة. نحن هنا نتحدث عن الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي والديني.. إلخ.
وكل خطاب من هذه الخطابات له فمه وآلياته وطرق تحليله الخاصة التي ترتكز على مجموعة متبنيات فكرية وفلسفية ولسانية تدور كلها حول مدار الخطاب وتتبَّع أنماطه، وتكشف عما يقصده صاحب الخطاب، الذي يشارك جمهوراً ربما يكون محدداً، وربما يتوسع هذا الجمهور ليكون شموليَّاً.
تبرز هذه الخاصية، أي خاصة التنوع في الجمهور المستهدف، في الخطابات السياسية، لاسيما في أيام الانتخابات. لأن التركيز في الانتخابات يكون على الشمولية في الخطاب، ومحاولة الوصول والإقناع تتجاوز الآفاق القصيرة إلى الآفاق الأبعد.
 
بلاغة الجمهور
مع تطور مفاهيم دراسة الخطاب، اتجهت الدراسات إلى استدعاء النظريات والمقولات القديمة الخاصة بالخطاب وأسقطتها على الواقع اليومي من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الفهم الموضوعي والتحليلي لمستويات الخطاب المتعددة. من هنا انشغل المعنيون بالخطاب بالعودة إلى المفاهيم التقليدية، التي يعود بعضها إلى زمن أرسطو. ومن هذه المفاهيم قضية الجمهور الذي هو أحد أهم أركان عملية التواصل التي ينتجها الخطاب. بلاغة الجمهور معنية بالتفاعل مع الخطابات التي يتلقاها ومن ثمَّ تفكيكها والثناء عليها أو إدانتها وتمزيقها بردود أفعال محسوبة بلاغياً. بمعنى أنَّ الاتجاه الذي تتجه إليه هذه البلاغة هو اتجاه التمييز بين الخطابات وفرزها والتمييز بين ما كان سلطوياً منها يستهدف السيطرة والاستغلال، وبين خطابات أخرى حيادية تعمل على تحقيق أهداف الجمهور أو في الأقل تتعاطف معه وتعمل على تحريره. فبلاغة الجمهور هي بلاغة خاصة تدور حيثما دارت الاحتمالات التي تعمل على تهجين الجمهور واستلابه لتمنحه قوة الرفض والتحدي، التي تحاول خطابات البلاغة العامة السيطرة عليه من خلال تقنياتها وأدواتها الإنشائية.
 
الخطاب السياسي
لم تكن الدراسات المهتمة على تفكيك الخطاب مقتصرة على وقتنا هذا، بل إنَّه بالعودة التاريخية لملاحقة ما جرى بحثه تحت عنوان (دراسة الخطاب والبحث فيه) ستكشف لنا عن انبثاق الاهتمام لها قديماً أيضاً. لكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ساد نمط من الدراسات والأبحاث، انشغل- أي النمط- بالبحث في الدراسات الإنسانية، لا سيما المتعلق منها بالجانب اللساني. وهو طبعاً يمثل ردة فعل ومحاولة من الذين تبنوه لمعالجة الأزمات التي نمت داخل المجتمعات بفعل الحرب وتراكماتها. ولهذا الخطاب وظائف يستميل بها صاحب الخطاب جمهوره الذي يخاطبه. ويرى ميشيل فوكو، الذي يعدُّ أبرز من كتب في موضوع الخطاب، أنَّ الخطاب السياسي يتسع وتتعدد مفاهيمه وتتنوع مصادر إنتاجه التي تشمل الأفراد والمؤسسات والجماعات، وهذا كلُّه يحرِّكه منطق داخلي وارتباطات مؤسساتية، وهو بهذا لا يكون معبِّراً عن الذات الفردية ولا يكون من نتاج هذه الذات، بل هو في الغالب يكون خطابا يتبع المؤسسة وسياساتها. ولما كانت الأحزاب هي المعبِّر الأبرز والأهم عن السياسة، لذلك فإنَّ هذه الأحزاب لا بد من أن تكون لها خطاباتها الخاصة، التي ترسم من خلالها سياساتها العامة، وكذلك يكون لأفرادها خطابٌ خاصٌ يتحرك نحو جمهور ينتقيه هؤلاء الأفراد، من أجل إقناعه والتأثير فيه واستمالته، سواء إلى الحزب أو خلال التنافس الذي تفرضه الانتخابات مثلاً.
 
الحالة الحزبيَّة في العراق
 ما بعد 2003
تمثل مرحلة ما بعد 2003 ربيع الأحزاب في العراق وخريفه في الوقت نفسه. نحن ننظر هنا طبعاً إلى الكم الهائل من الأحزاب التي نشأت بعد سنوات من الفردية الحزبيَّة، التي تسمَّى مجازاً بأنها تنتمي الى الواقع الحزبي، لأنها في الحقيقة ليست سوى حالة دكتاتورية كانت ترتدي ثوب الحزبية.
لا بدَّ من النظر هنا إلى مسألة تتعلق بطبيعة هذه الأحزاب، التي نشأت على يدها العملية السياسية، وهي أن الأحزاب الأساسية منها كانت موجودة سابقا ولديها تنظيمات داخلية وخارجية مرتبطة بها، حتى مع صعوبة العمل التنظيمي أيام النظام السابق، في حين أن الكثير من الأحزاب نشأ بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وهذا يعني طبيعة الخطاب ونوعه ستكون متباينة بين هذه الأحزاب ومختلفة بدرجة كبيرة حتى مع انحدار هذه الأحزاب من بيئات متماثلة، بالرغم من أن مرحلة ما بعد 2003 كانت مرحلة للهويات الفرعية، وهذا يستدعي بالضرورة اتفاقا بين المنتمين الى الهوية الواحدة على شكل الخطاب ونوعه ومتبنياته، لكن الذي حصل هو اختلاف المتبنيات السياسية داخل النوع الهوياتي الواحد في ظل السعي الى السلطة عبر بوابة الانتخابات، بل إن الكثير من هذه الأحزاب والحركات قد ذهب باتجاه التمرد على الاتجاه الحزبي العام، سواء من خلال تبني منهج المقاطعة او الرفض الشامل للوضع الجديد. مع ملاحظة أن بعض الاتجاهات التي شاركت في العملية السياسية لم تتبنَ مفهوم الحزبية، بل ظل معتمدا على فكرة التيارية او الحالة الشعبية، التي تنتظم تحت عنوان الوحدة الاعتقادية، ولعل خير من يمثل هذا الاتجاه هو التيار الصدري.
 
خطاب الأحزاب والكتل السياسيَّة
تعددت خطابات الأحزاب والكتل السياسية في العراق وتنوعت بحسب طبيعة الظرف، الذي يستدعي هذه الخطابات. وهذا الامر مرتبط بشكل كبير أيضا بالبيئة الحاضنة والهوية التي ينتمي لها أصحاب الخطاب.
فمثلا في البيئة الشيعية، التي تمثل بيئة الأغلبية السكانية، تتجه الأحزاب او التيارات بخطب، أحيانا تكون مركزية، واحيانا أخرى تكون غير مركزية، خصوصا في أيام المناسبات الدينية، أو ذكرى للاحتفاء بشخصية دينية او سياسية. ومع هذا فإن نوع الاحتفاء أيضا يكون متعددا ومختلفا بسبب التعدد الحزبي الذي صار لكل اتجاه فيه ايديولوجيا مختلفة. نستذكر هنا مثلا الاحتفاء بذكرى استشهاد المرجعين (محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر)، اللذين تتبنى أحزاب وتيارات كثيرة افكارهما.
في حين يتحرك خطاب الكرد في اتجاهات قومية من اجل تدعيم وجودهم سواء في كردستان او في المركز. اما الخطاب الخاص بالسنة، فإنه لا يحتفي كثيرا بالمناسبات الدينية والقومية، سوى خطاب الحزب الإسلامي، أما باقي الأحزاب والتيارات فهي تعتمد في وجودها وخطابها على وجودها ومشاركتها وتمثيلها في السلطة التنفيذية او التشريعية.
ما يهمنا هنا هو الحديث عن خطاب الأحزاب والتيارات في أيام الانتخابات التي، وكيف ان هذه الخطابات قد تحولت كثيرا منذ انتخابات الجمعية الوطنية المؤقتة في 2005 الى يومنا هذا.
في ما يخص الأحزاب الشيعية، فإن خطابها كان في الغالب يمازج بين المشاعر الدينية والرؤية الجديدة الى العراق في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، لأن واقع هذه الأحزاب واتجاهاتها كان واقعا مرتبطا بالحالة الدينية وذلك كون الأحزاب الإسلامية، هي التي كانت تتبنى معارضة النظام السابق، وبسبب عدم وجود اتجاه علماني داخل البيئة الشيعية لصعود الحالة الإسلامية، وأيضا للتجربة المرة التي كان يمارسها النظام السابق الذي كان يدعي العلمانية، لهذا كانت هناك محاذير من أن يتبنى أحد الأحزاب او الاتجاهات الخط العلماني في بيئة عانت طوال سنوات من القهر بسبب هويتها الدينية. لذلك، شهدت الانتخابات الأولى مثلا وصول عدد كبير من المعممين او الرجال أصحاب اللحى والنساء الملتفعات بالعباءات الى البرلمان، وهذا بطييعة الحال يمثل جزءا من الخطاب، نقصد هنا المظهر الخارجي والزي، لأن مفهوم الخطاب يتوسع عبر سيميائيات ورمزيات ليشمل حتى الأزياء. اما في الاتجاه السياسي، فصحيح ان الأحزاب الشيعية كانت دينية في الغالب، لكنها كانت تعتمد في برامجها التي تخاطب بها جماهيرها على الاتجاه نحو الدولة وليس الانكفاء عنها. مع الاختلاف أيضا في الخطابات من الحالة الجديدة التي فرضت وجود قوات اجنبية محتلة. فبعض التيارات، وفي مقدمتها التيار الصدري، تبنى مفهوم المقاومة السياسية والعسكرية، واقنع به أنصاره الذين كانت لهم كتلة سياسية ومناصب تنفيذية في الحكومة. اما باقي الأحزاب، فكانت تنظر ببراغماتية الى الواقع، وكانت مشغولة بتعويض حياة المعارضة بالحياة الجديدة، التي أصبحت فيها على رأس هرم السلطة.ومع تقدم الوقت، صارت هذه الأحزاب تتعاطى مع التغيرات المجتمعية بما يتناسب مع تغير قناعاتها بالحالة الدينية، بوصفها ممثلا وحيدا للحياة الحزبية، لذلك فإننا سنجد تراجعا في ظهور العمامة في التمثيل النيابي. مثلما ان أصحاب اللحى، باتت لحاهم أخف من السابق، مع إمكانية ظهور غير الملتفعات بالعباءات كممثلات للأحزاب، التي تتبنى الاتجاه الإسلامي. حتى على مستوى الشعارات او اللوغوات المستعلمة في الحملات الانتخابية، نجد أن هذه الأحزاب باتت تستعمل شعارات ولوغوات تتجه في خطابها نحو فكرة الدولة والمواطنة، بعد أن كانت خطاباتها الخاصة بالشعارات تتحرك في منطقة الدين. أما التحول الأبرز، فيمكن أن نلحظه في الخطابات والشعارات وحتى أسماء التيارات والقوائم المشاركة في الانتخابات، التي ننتظرها في 10 - 10 من هذه السنة. اذ يغلب عليها المباشرة والاقتصار على كلمة واحدة في اغلبها تراعي الظرف الذي افرزته الاحتجاجات، التي انطلقت في تشرين 2019. ما بين تصحيح ووعي او امتداد وغيرها.
 
استمالة الجمهور
أما البيئة السنية، فإن خطاب تياراتها واحزابها كان يركز في بدايته على أن تلوذ بفكرة الوطن والمقاومة معا، وتبني خيارات تتحرك في استمالة الجمهور الذي كان مترددا في المشاركة بالانتخابات بفعل الخوف الذي سببته فتاوى دينية لحركات متطرفة كانت لا تريد للجمهور السني أن يمنح الاعتراف للوضع الجدبيد من خلال مشاركته في الانتخابات. لكن مع تراجع الصقور في المعسكر السني، واقتناع الساسة السنة بضرورة عدم غياب المكون السني من العملية السياسية، بدأ نمط جديد من الخطاب يبتعد عن التشدد في المواقف، ويهتم بصياغة حالة سياسية جديدة تعبر عن الحالة الوطنية فقط، كما هو الحال في تجربة الاندماج والنزول بقائمة واحدة مع زعيم حركة الوفاق اياد علاوي، ونعني هنا، تجربة القائمة العراقية التي لم تصمد طويلا، ليصيبها التشقق والوهن بعد عودة خطاب قيادات سنية كبيرة الى الحالة الفئوية بل وحتى المناطقية. اما واقع الخطاب اليوم، فانه خاضع للتنافس الذي تمثله حالتا (تقدم وعزم) اللذين يمثلان اتجاهين مختلفين ومتوازيين في الخطاب المتجه الى جمهور الناخبين.
وحين نتحدث عن واقع خطاب الأحزاب الكردية، فاننا سنجد احتفاظ هذا الخطاب بفكرة الجمهور الثابت الذي تتجه له الأحزاب والتيارات هناك بقضايا مركزية، مثل فكرة الاستقلال وفكرة الرفاهية والتطور الذي تتفوق به مناطقهم على المناطق الأخرى، فضلا عن تغذية الشعور القومي والتذكير بالمظالم الكثيرة التي تعرض لها الكرد بسبب سياسات المركز، بما يعني النظر المستمر بريبة الى المركز. ربما قد تحاول بعض الأحزاب المعارضة في كردستان اليوم الخروج من هذا الاتجاه في الأفكار والخطاب، لكن هذا يتعلق بمدى قبول المواطنين الكرد وتحول قناعاتهم هناك، لأن سنوات من الدكتاتورية والحروب مع المركز تجعل ذاكرة المواطنين الكرد حساسة تجاه تطورات الاحداث في بغداد.
إن هذه القراءة لواقع خطابات الأحزاب والتيارات العراقية هي محاولة ليست نهائية او وحيدة لفهم طبيعة خطاب هذه الأحزاب، لكنها محاولة تستهدف الكشف عن أنماط الخطاب واتجاهاته وأبرز العوامل التي أثرت في صياغته.