ثلاثيَّة {العرَّاب}.. السَّينما الخالدة

الصفحة الاخيرة 2021/09/19
...

  المغرب: عبد الكريم واكريم
 
 
 تقديم شخصي جداً
حينما قرَّرتُ مشاهدة ثلاثية {العراب} لمرات لست أدري كم انتعشت ذاكرتي المخاتلة، وكانت هذه المشاهدة بمثابة الفتيل الذي أوقد شرارة التذكر والعودة للوراء سنوات عديدة.
ذكرياتي مع الجزء الأول من فيلم {العراب} ابتدأت قبل أن أشاهده، حينما كنتُ مجرد دودة كتب صغيرة ليس لديها من تجزيَّة للوقت غير القراءة، ساعتها وبالصدفة وجدتُ رواية بعنوان {العراب} لكاتب لم أكن أعرف عنه شيئا اسمه ماريو بوزو، وشرعت في قراءتها خلسة لأنها لم تكن روايتي بل وجدتها في بيت أختي المجاور لبيتنا وكانت ملكا لزوجها. وهكذا كنتُ مضطرا للقراءة في الرواية بشكل متسلسل وعبر مراحل ثم إعادتها لمكانها حيث وجدتها، حتى انتهيت منها.
لكن ستأتي مرحلة أخرى سأُشاهد فيها ملصق فيلم به يد تمسك بخيوط كتلك التي تحرك الدمى وفي القاع عوض الكراكيز عنوان الفيلم، أثارني الملصق لكني لم أتمكن من مشاهدة الفيلم بقاعة سينما {روكسي} العريقة بمدينتي طنجة يومها، لأني لم أكن أملك ثمن التذكرة.
سأشاهد الفيلم بعدها بسنوات وقد كَبُرَ فِيَّ الوعيُ {السينفيلي} وأصبحت أعلم حَقَّ المعرفة من هو كوبولا وماهي قيمته كمخرج، لكن مُشاهدة اليوم كانت مختلفة تماما بحيث جعلتني أكتشف أشياء في الفيلم لم أقرأها عنه ولا كانت من منبع غير منبعي الخاص، وبدون لا وعي سينفيلي مصطنع، لقد كانت مزيجا من وعي قارئ جَيِّد، تجاوز بكثير الطفل البريء الذي كانت تجزيَّة وقته الوحيدة هي قراءة الروايات خلسة، وتَمرُّس مُشاهد لم تعُد تهمه النظريات الأكاديمية، فبدا له أن الفيلم من تلك النوعية من الأفلام التي تساوي قيمة الروايات التي اقتبست عنها أو تتجاوزها قليلا.
 
مشاهد خالدة
تعتبر ثلاثية {العراب} للمخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا من بين أهم كلاسيكيات السينما العالمية، وقد صنع نجاحها النقدي والجماهيري كونها تحتفي بالتفاصيل وتُعطي الوقت للمشاهد كي يتتبعها لِتُكَوِّن مجتمعة في أجزائها الثلاثة ملحمة سينمائية قَلَّ أن تتكرر.
من بين أهم المشاهِد في الجزء الأول من {العراب} مشهد عُرس ابنة {الدون كورليوني} الذي يُفتتح به الفيلم والذي يُعَرِّفنا بشخصيات الفيلم وخصوصا فيتو كوريلوني الذي بإمكانه أن يُقيم {عدالته الخاصة} بالانتقام ممن اعتدى على فتاة شابة يلتجئ أبوها إليه طلبا للانتقام، وفي ما يُقارب النصف ساعة تتنقل الكاميرا بين مكتب العراب وحديقة بيته حيث يُقام العرس، بحنكة لا يمتلكها سوى كبار المخرجين، بحيث يبدو تحكُّم كوبولا في إطارات لقطاته وتوزيعه للممثلين في الفضاء المُصوَّر واستعماله للمونتاج بشكل لا يجعل المُشاهِد يَملّ، منتقلا بتوازن تام بين لقطات داخلية بطيئة تغلب فيها الحوارات وأخرى خارجية مُمتَلِئة بالحياة والحركة.
مشهد آخر مهم في الفيلم هو ذلك الذي نُتابع فيه موت العراب {الدون كورليوني}، ويُلخص نظرة المخرج للحياة من خلال لعب فيتو كوليوني مع حفيده ثم سقوطه فجأة بعد ذبحة صدرية مُفاجئة أصيب بها، وهو الذي لم تستطع سبع رصاصات اخترقت جسده قبل ذلك أن تصيبه في مقتل.
 
ثيمات أثيرة
الثيمات الأثيرة لدى كوبولا والتي تتردد في أفلامه هي موضوعا الأسرة والزمن وما يفعله بالناس ومصائرهم، لكن الثيمتين تظهران بقوة في ثلاثية {العراب} بحيث أنهما تُشكِّلان البنية الأساسية التي تقوم عليها الأفلام الثلاثة، من خلال مسار الشخصية الرئيسة مايكل كورليوني الذي يبدأ كإنسان مُسالم ليدخل بالتدريج إلى عالم المافيا والجريمة وحتى حينما يقرِّر التوبة والبُعد عن ما هو غير قانوني في الجزء الثالث يتبعه الماضي بلعنته وبظلاله السوداء بحيث ينتهي هذا الجزء الأخير بمقتل ابنته الأثيرة، لكن يظل الثابت والغير مُتغيِّر بالنسبة لمايكل كورليوني هو اهتمامه الكبير بأسرته، التي تظل بالنسبة له بمثابة الأمر المقدس الذي لا يجب المساس به، وهنا نجد أشياء حميمية لكوبولا بخصوص أسرته وظَّفها في ثلاثيته الكلاسيكية هذه، بحيث يُصبح {العراب} فيلما حميميا يضم رؤية مُخرجه وبعضا من سيرته الذاتية عرف كيف يُذيبها في أحداث درامية ركيزتها الأساسية اسرة إيطالية أميركية من اسر المافيا أو {لاكوزا نوسترا}. ومن المُلاحظ في ثلاثية كوبولا أنه أنسن شخوص المافيا بشكل جعل المُشاهد يتعاطف معهم ويجد تبريرات لما يقترفونه من أفعال.
 
ممثلون كبار
من أهم نقاط القوة في ثلاثية العراب التمثيل الجيد، إذ لا يمكننا نسيان شخصية فيتو كورليوني التي أداها باقتدار الممثل الكبير مارلون براندو والتي نال عنها جائزة أوسكار أفضل ممثل، وشخصية مايكل كورليوني التي قام بها آل باتشينو، إضافة لأداء كل من روبيرت دينيرو وجيمس كاين وروبيرت دوفال وآخرين تميزوا بعد ذلك كأندي غارسيا في الجزء الثالث في دور ابن أخ مايكل كورليوني، مع العلم أن دينيرو وآل باتشينو كانا غير معروفين إلى حدود تمثيلهما لدوريهما في العراب.
وتظل أهم شخصية في الثلاثية هي شخصية مايكل كورليوني التي أداها باقتدار آل باتشينو، وتَكمُن صعوبة أدائها في كونها شخصية تتطور بشكل بطيء من كونها شخصية هادئة ومُسالمة وبعيدة عن عالم المافيا والإجرام لتجد نفسها بالتدريج وببطء تدخل في هذا العالم الموبوء وبدون رغبة منها تقريبا، وكأننا بالمخرج والكاتب يقولون لنا أنه هو القدر الذي يرسم لنا مسارات غير تلك التي أردناها لأنفسنا في الحياة.
على العموم فإن ثلاثية {العراب} وخصوصا الجزأين الأولين سيظلان في الذاكرة السينمائية للأبد، وكلما صدرت لائحة لأفضل وأهم الأفلام السينمائية في تاريخ السينما وجدناهما ضمن العشرة الأوائل في تصنيف النقاد ومِهَنِيِّي السينما.