كثيرا ما يصادفنا نقد سردي تكون فيه القصة أو الرواية هي المبتغى والوسيلة وكأن هذا النقد مخلص في انقطاعه إلى السرد، ووفي لكل متعلقاته من نظريات ومناهج وأساليب ومصطلحات وتاريخ أدبي. غير أن ذلك قد تنتفى قيمة ما يحمله من إخلاص ووفاء حين يمارسه ناقد هو أما كاتب يعنيه التفكر والتدبر أو باحث يهمه التنقيب والجمع أو مؤرخ يؤرقه الإحصاء والفهرسة والتبويب أو محلل مهمته العرض والتوصيف أو قارئ له ذائقته التي بها يعبر عن انطباعاته بحرية تقيدها بعض المرجعيات القرائية المحددة.
ومن دون ذلك قد لا يتحقق وجود ناقد ينتج نقدا لنص منقود ضمن خطاطة الاشتغال النقدي التي مارسها كبار النقاد العرب المعروفين حتى اضافوا إلى الاشتغال النقدي بصمات مهمة، فضلا عن ما قدموه للاشتغال الابداعي من مديات من التطور، دافعين بذلك عجلة الادب قدما نحو الامام.وعلى الرغم من أنهم لم ينشغلوا كثيرا بتحديد فرضيات التمكن النقدي لكنهم كانوا متمكنين من النقد بدقة وعلمية، خذ مثلا لا حصرا العقاد وطه حسين وادونيس ونازك الملائكة وغيرهم عشرات من النقاد العرب المحدثين والمعاصرين.
وفي مقابل هذا التأسيس المرحلي تأتي مراحل من التبلورات النقدية التي تجسدت في أحاد من النقاد العرب ـ ولا أقول عشرات ـ من الذين إتصفوا بتلك الدافعية التي عُرف بها النقاد الرواد، فيا ترى ما السبب الذي فقد فيه الناقد العربي سماته الناقدية الحقة حتى صارت عزيزة لا يتمتع بها سوى من حظي بنصيب وافر من التكون المعرفي والبناء الادواتي ؟
لعل السبب يتجلى في عدم تحقق شرط الادماج المضغوط الذي قدمنا له آنفا والذي به لن تنصهر الكينونات الكتابية والقرائية مع بعضها، أما بسبب شطح كينونة هنا أو انشقاق أخرى هناك أو تمرد واحدة منها على الأخريات فلا تقبل الانصهار بها مشتطة عن المجموع. وقد تتعالى كينونة على حساب غيرها، فتبرز واضحة طاغية على الكيانات الأخرى التي أرادت أن تتفاعل معها، لكن غرورها منعها من الدخول في ذلك التفاعل. أو لعله القصور الادواتي الذي لم تستطع معه تلك الكينونة ـ التي تبغي أن تكون ناقدة ـ الاندماج مع تلك الكيانات ومن ثم لا يتحقق لها التدشين لشروط الناقدية مثلما لن يتاح لها تطبيق التزاماتها.
وهكذا تموت كينونة النقد لتحيا بدلها كينونات أخر؛ كأن تكون كينونة الباحث كما في منجز د.عبد المنعم مجاهد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وغيرهم وقد تكون كينونة الكاتب هي البارزة كما في الشخصيات: عبد الجبار عباس وعبد الكبير الخطيبي وعبد العزيز المقالح وغالي شكري وشكري عياد. وقد تكون كينونة المؤرخ هي الطاغية كما في أعمال عبد الاله أحمد ومحمد غنيمي هلال وداود سلوم وقد تكون كينونة المحلل هي الظاهرة كما في تحليلات علي جواد الطاهر وعبد العزيز حمودة ومحمد مندور وغيرهم.
وإذا كان هذا هو المتحقق فعليا على خارطة النقد العربي المعاصر، فما بالنا بخارطة النقد العربي الراهن أما زال الناقد أو من يوصف بأنه ناقد يراوح عند ضفاف الاندماج، ولم يجازف بعد في دخول معترك الانضغاط الذي به تندمج الذات في ذوات لينصهر مجموعها في كينونة ثقافية واحدة ؟!!
ليس يسيرا الجزم بنعم أو لا في الاجابة عن هذا التساؤل، لكن ما هو ممكن الادلاء به باتجاه بلوغ إجابة شافية تعطي صورة قطعية لواقع النقد العربي الراهن هو اجراء مسوح احصائية لأهم التجارب النقدية التي حظيت بالتقدير والاكبار حتى امتلكت الجدارة. ومن التجارب التي يمكن أن يشملها مثل هذا المسح الاحصائي تجربة د. عز الدين اسماعيل او الناقد فاضل ثامر أو د.شجاع العاني.
ولقد كان ميشيل فوكو ناقدا وهو في أوج ممارسته التفلسف، كما كان بول ريكور فيلسوفا وهو في عزِّ ممارسته التنظير السردي، كما كان ادوارد سعيد ناقدا وهو في خضم تعليقاته السياسية وتحليلاته الاقتصادية وتشخيصاته الاجتماعية وهلم جرا من نقاد ما بعد الحداثة الذين تجسدت في تجاربهم النقدية سمات الكينونة الناقدة الاندماجية التي فيها انصهرت كينونات أخر وتمازجت واختلطت حتى غدت واحدة.
وقد لا يكون مثبطا للعزم القول إن الناقد العربي الذي يريد أن يكون مندمجا أو اندماجيا في عالم نقد ما بعد الحداثة هو عادة ما يكون متمغنطا بالركود والرتابة متحنطا بالتنميط كمناهج وفرضيات، ومتقيدا بالتحييد اجناسا وموضوعات، ومتحجرا عند مقولات وفذلكات واجترارات، لا يني يكررها حتى تغدو مع تقدم تجربته النقدية مبتذلة ومرذولة، وقد يتقوقع عند أصنام نقدية يجلُّها ويكبر نفعيتها ويقدس منجزها سائرا على ما سارت عليه وهو يتوهم أنه هو السائر بها نحو ما يريده منها، أو يعتقد أن ما تدره عليه ترجمات يصادفها عن نقاد ما بعد الحداثة من معارف وأفكار ستسمح له بأن يقتنص منها ما يريده، ليعيد طبخه فيظهر بنكهة مختلفة، وبذلك ستبدو الطبخة من عنديات وعائه لا علاقة لها بأوعية الاخرين.
ولسان حاله يقول إن إعادة الطبخ لتلك الترجمات النقدية الغربية عن تودوروف أو بول ريكور أو كلينث بروكس أو ليوتار ستظهر الطبخة بطعم ورائحة وشكل جديد لا أثر يدلل فيها على الطابخ النقدي الأول صاحب السبق بالاناة في تحديد المقادير ووضع اللمسات التي تجعل النكهة جديدة مبتدعة هي براءة قراءة باكر واجتراح معرفة أصيل تبلور عن فكر عميق ومجيد.
بيد أن ما تقدم لا يعدم وجود نقاد عرب معاصرين يوصفون بحق انهم نقاد ما بعد حداثيين بسبب فكرهم الذي لا يعرف التمغنط ويكره التحييد ولا يقر بالاعراف ولا يكترث للمسلمات ولا يركن الى الثوابت وانما يلهج بالتجديد ويدعو الى التحرر والتنوير ويتقصد القلب والتثوير مجسِّرا المسارات بين كل ما هو مقطوع أو مصلوب او متهرئ بهدف إدامة الوصل بين الجدليات، والاقرار أن لا فكرة هي أحادية ولا صورة بلا جدلية ،كما أن لا مادة بلا ضد ولا مثال بلا مثيل، مستعبرا بذلك تاريخا مديدا من الفلسفة في فرعيها الفيزيقي والميتافيزيقي وبأشكالها المثالية والعقلية والوضعية، مشككا في اليقين ليكون أكثر يقينا، ومتقينا من التشكيك ليكون أكثر إشكالا، ومتيقظا للحقيقة لعله يضع يده عليها في شكل نظرية أو فرضية أو تقنين.