جاسوس الحرب البريطاني الذي لم يعرفه السكان

بانوراما 2021/09/21
...

  فيجينت أولاي
  ترجمة: حميد ونيس
في نهاية القرن التاسع عشر، وصلت مجموعة من المهندسين البريطانيين إلى أغيلاس، في منطقة مورسيا الإسبانية على البحر المتوسط، على متن عربات خشبية تجرها المحركات البخارية لشركة {سكة حديد جنوب إسبانيا الكبرى}. وكان هدف تلك المجموعة: استخراج الحديد من جبال لوس فيلابريس. 
 
كانت نهاية الطريق هي رصيف هورنيلو، حيث تقوم السفن التجارية التي تحمل أعلاما ألمانية وإنكليزية ومحايدة بتحميل حمولتها الثمينة، والتي من شأنها أن تثبت لاحقا أنه لا غنى عن تلك الحمولة في الحرب العالمية الأولى.
أمام رصيف الميناء تقع جزيرة فرايل الصغيرة، حيث أقام الاسكتلندي هيو باكينهام بورثويك في العام 1912. وبعد أكثر من 70 سنة (عام 1983)، تركت إحدى خادماته، ماريا أبيلان رويز، شريطا مسجلا لها وهي تتحدث عن حياة بورثويك اليومية على الجزيرة التي أقام فيها حتى عام 1920، بعد وقت قصير من انتهاء الحرب التي دمرت أوروبا. لكن بورثويك لم يكن مهتما أبدا بالجانب الأثري لتلك الجزيرة؛ فكان مشغولا جدا بمشاهدة الرصيف حيث تم تحميل السفن حمولتها الحديدية، والإشارة إلى أسماء السفن ولون أعلامها.
يعمل حفيد الخادمة ماريا، خوسيه أسينسيو، مدرسا ومساهما في الصحافة الألكترونية، وهو من جمع تسجيل ذكريات طفولة جدته ماريا. وفي شريط التسجيل يمكن سماع صوت السيدة، التي عملت في خدمة بورثويك منذ سن المراهقة المبكرة مع والدتها وجدتها، وهي تقول عنه أنه {لم تكن له علاقة مباشرة بالمجتمع الإنكليزي، وكان عمله مكرسا لجريدته ومراسلاته. وكان كثير القراءة، ويتلقى العديد من الرسائل. لكنه لم يحتفظ بها. فقد كان يتلفها بعد قراءتها، لكنه كان يحتفظ بالصحف. وكان يذهب إلى الفراش مبكرا، ويحتفظ بمسدسه تحت وسادته، لكنه لم يكن خائفا من أي شيء. ولم يشرح لنا مطلقا سبب امتلاكه السلاح..}.
 
المظهر الأنيق
يشير المؤرخون والشهود والمصادر الموثقة إلى أن بورثويك كان ينبه ضابط الاتصال كلما غادرت سفينة من ألمانيا أو من دولة محايدة المنطقة محملة بخام الحديد. ثم تم تعديل النظام بشكل جيد، فبعد ارسال التنبيه، تقوم الغواصات البريطانية بإغراق السفينة المعنية. يقول أسينسيو: {رغم الشائعات التي ترددت أنه كان هاربا من الجيش، إلا أن الحقيقة هي أن مهمته كانت التجسس على الألمان من موقعه المتميز في جزيرة فريل}.
في عام 1992، ذكر المؤلف خوان نافارو في كتابه  باللغة الإسبانية (آثار أقدام من الماضي) أن {دون هوغو، كما كان يسميه السكان المحليون، لم يستقر فقط في الجزيرة، وإنما كان لديه أيضا في بلدة {أغيلاس}، منزلان لا يزالان قائمين}.
كان عدد السكان البريطانيين في أغيلاس مع بداية القرن العشرين كبيرا للغاية، وكان لأسلوب حياتهم تأثير عميق على المنطقة. وقد أنشأوا أول فريق محلي لكرة القدم، لعب فيه بورثويك، وكذلك لعبة الركبي والتنس، حتى إنهم قادوا السيارة الأولى في شوارع المدينة. لقد جلبوا أيضا أسلوبهم المعماري والهندسي وبالطبع لغتهم. ويوضح خوان دي ديوس هيرنانديز، عالم الآثار الإسباني: {آنذاك، كان بعض سكان أغيلاس لا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم يتحدثون الإنكليزية بسبب اتصالهم اليومي بالأجانب}.
كانت جزيرة فريل الصغيرة، التي تقع على بعد 100 متر فقط من الساحل، مملوكة للمصرفي الاسكتلندي جون غراي، الذي باعها سنة 1910 إلى اللفتنانت كولونيل ألكسندر بورثويك من الجيش البريطاني، والذي نقل بدوره الملكية إلى ابنه هيو، مع الهدف العلني لاستغلال أرضها.
درس بورثويك الشاب في أكسفورد حيث تم تجنيده من قبل المخابرات البريطانية، وفي سن الخامسة والعشرين، كان بالفعل في أغيلاس يستعد لتنفيذ مهمته. تشرح الكاتبة الهولندية جاكلين سوريل، أنه مُنح دور الجاسوس في أغيلاس بعد أن هاجم الألمان الضابط السابق (سلفه). 
تقول روايات الشهود، {وسط الفقر المدقع لبلدة أغيلاس آنذاك، كان دون هوغو يمثل الصورة النمطية لشاب جذاب، طويل القامة، بعيون زرقاء، يدخن الغليون ويرتدي الملابس السوداء دائما، وأحيانا يرتدي حلة بيضاء وقبعة. ويطلب غسل ملابسه وكيّها كل يوم بسبب هوسه بالنظافة}.
 
كرم اليد
وكان لطيفا جدا مع موظفيه، ومن بينهم حراس شخصيون وسائق وخدم، وحاول تعليمهم القراءة والكتابة واللغة الإنكليزية. ومع إنه بالكاد يتفاعل مع مواطنيه في الأماكن العامة، لكنه تلقى زيارات من عدد من البريطانيين: {أشخاص يرتدون ملابس أنيقة للغاية، يرتدون الجواهر والقبعات، وهو أمر لم يكن يتخيله سكان أغيلاس المحليون في بداية القرن}، بحسب المؤرخ خوان دي ديوس هيرنانديز الذي وصف المظهر بأنه صدمة حقيقية.
تتحدث الخادمة الجدة ماريا في الشريط: {كان رجلا طيبا، يشعر بالشفقة الشديدة على الفقراء، وكان مغرما جدا بالأطفال، حيث منحهم مبالغ كبيرة من المال، وأحيانا كان يمنحهم 15 بيزيتا (9 سنتات)، أكثر مما يكسبه بعض خدمه. وهكذا انتشرت أخبار إنسانية دون هوغو، وجاء العديد من الفقراء لطلب مساعدته}.
اختفى بورثويك من أغيلاس فجأة بالطريقة ذاتها التي وصل فيها الى المدينة. وتزوج في إنكلترا. وبعد وفاته سنة 1950، زارت زوجته المدينة وحاولت الاتصال بخدمه السابقين، لكن كثيرين قد توفوا أو لم يكونوا على علم بأنها كانت تبحث عنهم.
يقول الحفيد أسينسيو: {يستحق دون هوغو أن يكتب اسمه في شوارع أغيلاس، وأتمنى أن يحمل رصيف هورنيلو، الذي تجسس عليه، اسمه وأن يتم ترميم منازل الجزيرة التي كان يعيش فيها مع معرض له.}
 
عن صحيفة الباييس الإسبانية