سرّ النعامة

منصة 2021/09/29
...

 نهى الصراف
هذه اللعبة كانت سبباً واضحاً كي يسبغ على أصحابها صفة جبناء بكل جدارة؛ لعبة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى يمرّ الخطر، فإنْ لم يمرّ سيأتي الموت حتماً أو ما هو أسوأ منه.. يموت الجبناء وهم منشغلون بمذاق التراب الذي يدفنون فيه رؤوسهم.
رغم ذلك ووسط المشقات والمطبات الكثيرة التي يمكن أن يواجهها الناس لمجرد بقائهم على قيد حياة قاسية، تصبح لعبة رأس النعامة الخيار الأول لتجنب المواجهة أينما كانت وبأي صورة حلّت. الهروب من الواقع بهذه الطريقة يشبه كثيراً التعلل بالأحلام الوردية؛ فلا الأحلام تتحقق بكمالها المتخيل ولا الواقع يتغير إلى الأفضل لمجرد هروبنا منه واختبائنا في الرمل.
بهذه الصورة، يتجنب بعض الأشخاص مشاهدة أفلام الرعب، ترهقهم مشاهد الدماء وتقطيع الأوصال كما ترهبهم أفكار نهاية العالم.. العالم الذي يقف على حاشية الهاوية بالفعل، لكنه ما زال بخير طالما بقيت الهاوية بعيدة عن محيط منازلهم. فإذا كان في العمر بقية وما دام في الأمل مخرجاً فلا بأس من الهروب من مشاهد الشاشة الفظيعة ولو بصورة مؤقتة والتظاهر بالانشغال بسقي أزهار الزينة. في مشهد آخر قريب إلى الواقع لفصل أخير من رواية تنتمي إلى أدب السجون، تأخذ سجينة محكومة بالإعدام معدات الزراعة ودورق ماء وتبدأ بزراعة شجرة ورد في زاوية منسية في باحة السجن، وعندما يثير فعلها هذا استغراب السجانات تبادر إحداهن باستجواب السجينة بلكنة استخفاف عن سبب اهتمامها بزراعة الشجرة، مع علمها باقتراب موعد تنفيذ الإعدام الأمر الذي لن يتيح لها بالتأكيد مشاهدة ثمرة تعبها؛ مراقبة الشجرة وهي تنمو شهراً بعد آخر حتى تورق ألوانها. لكن السجينة تواصل عملها بصمت من دون أنْ تزعجها الأسئلة المستفزة، كل ما تفعله هو أنْ تراهن على اللاجدوى بإصرار غريب، من يدري، ربما يتضخم خيالها الرومانسي بحقيقة أن ما تقدمه اليوم من جهد يمكن أن يتسبب في إسعاد أناس آخرين لا تعرفهم، سيمكثون في هذا المكان من دون شك بعد أنْ تغادره إلى مصيرها المحتوم.
شغلتني هذه الصورة المزعجة في الرواية التي قرأتها منذ سنوات لم أعد أتذكرها، ذلك أنَّ الانغماس في المثالية لا يناسب مقاييس عصرنا هذا وربما لا يناسب أي شيء؛ فالسجينة لم تكن في تصوري مدفوعة بالأمل، بل إنَّ مواصلتها العمل على العناية بالشجرة ما هي إلا طريقة أخرى تساعدها على دفن رأسها في الرمال، حتى يتسنى لها نسيان المصير الرهيب الذي ينتظرها.. ستتيح للعاصفة أنْ تمرّ على شكل انشغال أو لهو مؤقت يمكنه أنْ يزيح عنها ثقل مواجهة الواقع ولو إلى حين. إنه سرّ النعامة.
جميعنا يفعل ذلك، نضع رؤوسنا في الرمال حتى يمرّ كل شيء على أجسادنا، إلا أنَّ هذه الخدعة لا تعفينا من دفع ضريبة المواجهة، هي تؤجلها فقط ويتعين علينا بعد ذلك أنْ نقرّ بالحقيقة عندما تحين اللحظة وهي لن تكون بالطبع لحظة هينة.