عفاف مطر
لطالما كتبنا وانتقدنا الكتّاب والأدباء بأنهم يعيشون في أبراجهم العاجية، ما جعل الشارع يبتعد عنهم وينظر إليهم كغرباء، وهذا صحيح نسبياً، لكنْ ماذا عن القراء؟ موضوعة وعي القارئ الذي عادة يكون منخفضاً، دائماً يعلل إما بغرابة الموضوعات التي يكتبها الأدباء، أو المستوى اللغوي والتعبيري العالي الذي يُنفِر القارئ، أو الموضوعات التي يختارها الكاتب والتي لا تهم القارئ بشكلٍ كبير، لكنْ؛ الى أي مدى هذا صحيح؟ من هو القارئ العربي؟ إنَّه خريج المدارس، المدارس التي قضى فيها ثمانية عشر عاماً من عمره، ثمانية عشر عاماً قضاها في حفظ كتب ضخمة ومتعددة ليكون نسخة كاربونية من الطالب الذي سبقه، ومن سيأتي بعده ليجلس على مقعده الدراسي سيكون نسخة كاربونية منه هو بدوره، ثمانية عشر عاماً سخرتها أنظمتنا التعليمية لتعزيز ملكة الحفظ، وهو ما كانت تقوم به الكتاتيب قديماً، ثمانية عشر عاماً لم يتعلم فيها الطالب تطوير ملكة التفكير النقدي أبداً، هو حتى لا يعلم أنَّ لديه ملكة التفكير النقدي، أو التفكير الناقد، بل على العكس، يتم تعليمه أنه مازال في سن لا تسمح له بنقد الأفكار والمعلومات التي يتلقاها، ليتخرج في المدرسة وينخرط في الجامعة، ليرى أنَّ الموضوع لم يتغير كثيراً، فأساتذة الجامعة هم بدورهم نسخ كاربونية من الأساتذة الذين سبقوهم. كم مرة رأينا وسمعنا أستاذاً في الجامعة أعلن الحرب على طالبه لمجرد أنه انتقد معلومة أو فكرة أو صرّح برأي مخالف، ليهب الأستاذ ويعدّها طعنة في شرفه وتاريخه وسمعته ونضاله العلمي؟ كم من طالب انتقل من جامعة الى أخرى ومن قسم الى آخر فقط ليهرب من ذلك الأستاذ؟ طوال سنوات الدراسة المدرسية والجامعية يُثقل كاهل الطالب بواجبات أغلبها لا تغني ولا تسمن من جوع، واجبات إما تمنعه من قراءة كتاب خارجي، بسبب الانشغال أو الإجهاد، أو واجبات تجعله يكره ليس فقط الكتب وحسب، بل تجعله يكره قراءة حتى الصحف والمجلات وفواتير الكهرباء. ثم يأتي الكتّاب وأصحاب الأقلام لينتقدوا ويهينوا القارئ بأنه ليس ذا وعي يمكنه من قراءة وفهم مؤلفاتهم، ولكنَّ الموضوع أبسط من ذلك بكثير، الموضوع ليس أنه ليس بقادر على فهم مؤلفاتهم، الموضوع أنه ليس مستعداً لقراءة ونقد مؤلفاتهم، لم يؤهل القارئ في بلداننا العربية على مدى ثمانية عشر عاماً في المدرسة وأربع أخرى في الجامعة على التفكير النقدي والقدرة على التمييز والفهم، لذلك هو لا يعلم أنَّ هذه الكتب قد تغير مسار حياته بالكامل؛ ذلك أنَّ الكتب التي قرأها طوال الـ 22 عاماً لم يستفد منها ولا يتذكرها أصلاً. لهذا يتصدر كتّاب وسائل التواصل الاجتماعي الـ»ترند»، بينما يبقى كتّاب مهمون مهملين ومن دون تأثير، بوست من كاتب تافه يسرق ما يكتبه من هنا وهناك يتربع على الترند، ويبقى مؤلَف عظيم استغرق من صاحبه ربما سنوات لإتمامه على الأرصفة مغطى بغبار المارّة والسيارات.
ولو نظرنا الى جهود أولياء الأمور الذين يشجعون أولادهم على القراءة ويشترون لهم قصص الأطفال، وبنظرة سريعة أو بنظرة متمعنة – لا فرق- على هذه القصص، لوجدناها ليست ذات قيمة حقيقية. هل هي قصص تشجع الأطفال على التفكير النقدي؟ أم أنها لا تتعدى محاولة دغدغة خيالهم النشط؟
أذكر حين كنت في الإعدادية وفي مادة الأدب، هناك صفحة للقصيدة وصفحة معنونة بالنقد الأدبي، القصيدة طبعاً علينا حفظها كأسمائنا بل وأكثر، أما صفحة النقد الأدبي فهي ليست سوى مزحة سمجة من واضعها، فهي لا تتعدى نبذة عن حياة الشاعر، وبقيت طويلاً أعتقد أنَّ كلمة (نقد) تعني موجزاً مختصراً عن شيء ما.
أغلبنا قضى 22 عاماً من عمره يحفظ ولا يعرف معنى النقد ولم يتعلم فيها مهارة التفكير، التفكير الذي يميزه عن الحيوانات وباقي المخلوقات، 22 عاماً نسخ كاربونية تُدرِس نسخاً كاربونية أصغر لتصبح نسخاً كاربونية أكبر وهكذا دواليك؛ ثم نأتي نحن الكتّاب لنتهم القارئ بأنه ليس ذا وعي. المستشيطين غضباً من التافهين الذين يتصدرون الهاشتاكات ووسائل التواصل الاجتماعي ولا يجدون مبرراً لتصدرهم هذه المكانة، أقول لهم هذا هو السبب الرئيس: 22 عاماً من دون تفكير. ماذا تتوقعون؟