في ضحى يومٍ ماطر وجدتُ نفسي في قاعة استقبال مطار مدينة بسكرة الجزائرية، وقد طلب مني سفيرنا الممتاز في الجزائر يومذاك عدي الخير الله، أن أتحدّث دقائق قليلة إلى مستقبلينا، فقلتُ ما ملخصه: حُبّ الجزائر هو تربية نشأنا عليه منذ الصغر، فحينما كنا لا نزال طلاباً صغاراً في صفوف المرحلة الابتدائية، علمونا قصة مقاومة الشعب الجزائري وغذّونا محبته، فعلقت بذاكرتنا أسماء السيد عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس وجميلة بوحيرد وأحمد بن بلا وغيرهم.
ثمّ تطوّر هذا الوعي وتنامت بذرته، عبر علاقة معرفية وطيدة بتراث ابن باديس (ت: 1940م) والمفكر الحضاري المتميّز مالك بن نبي (ت: 1973م) وعمار طالبي ومحمد آركون وعبد الرزاق قسّوم وسواهم.
تكرّرت بعد ذلك زيارة الجزائر لتكون الرحلة إليها من أجمل رحلات العمر؛ سواءٌ في الجزائر العاصمة أو ولايات بسكرة والوادي وورقلة، والأهمّ من ذلك مدينة الجمال قسنطينة وطبيعتها الجميلة وصخورها وأوديتها وجسورها المذهلة، وكلّ شيء فيها.
الجزائر العاصمة باذخة الجمال وهي تتربّع بإطلالة باهرة على غرب البحر الأبيض المتوسط، وتجمع طبيعتها الرائعة بين بيئة السهل والجبل، والخضرة والماء والوجه الحسن؛ بجماليات الوجهين العربي والأمازيغي معاً.
بعكس مظهره الحادّ وأسلوبه الشديد بالحديث، ينطوي الجزائري على بواطن غاية في الطيبة. فما إن تخترق هذه القشرة القاسية، حتى تنفتح على إنسان يفيض لك بمشاعره، ومن أبرز المفاتيح إلى ذلك؛ بل أبرزها بالنسبة إلينا، أن تقول أنك عراقي، عندها تنفتح أمامك طوايا الخير في هذا الإنسان، فينشر عليك البهجة والمودّة والسرور.
أجل، هناك لوثة هي جزء من مرض العرب معنا، هي لوثة صدام حسين أو الزعيم، كما يحبّ وصفه بذلك جماعات ليست قليلة من أبناء الجزائر، لكن المودّة العميقة القارّة التي يحملها الجزائري بالمطلق للعراقيّ بالمطلق، تهوّن من آثار هذه اللوثة.
وكنتُ ولا أزال أعتقد أن توثيق العلاقة مع الجزائر، أنفع كثيراً من كثيرٍ من علاقاتنا مع دول الإقليم من حولنا، سواء على مستوى التجربة الأمنية المتميّزة، أو على المستوى الاقتصادي والثقافي والسياحي. لو انفتح البلدان على بعضهما سياحياً، أعتقد أنهما سيشهدان تواشجاً كبيراً وألفة نفسية رائعة بين الشعبين، يرتدّ قوامها إلى المشتركات الكثيرة بين شخصية العراقي والجزائري.
والأهمّ من ذلك أن مشاعر الجزائر صادقة إلى حدّ كبير إزاء العراق، لأنها لا تستبطن المنافع ولا يكتنفها الغدر ولا يحركها التآمر. فالجزائر بلد باذخ الثراء في المساحة وتنوّع الطبيعة، وفي النفط والغاز وبقية مقوّمات الاكتفاء الذاتي.
لماذا الكلام عن الجزائر الآن؟ لأنه في منعطف مغلق وخطير جداً، وبوصفه أكبر بلد عربي فهو مستهدف، وكلنا أمل أن تنهض حكمة الجزائريين المعهودة بإنقاذه من هذا المنعطف!