حينما خاطب أمير الشعراء أحمد شوقي الموسيقار محمد عبد الوهاب قائلاً: “إذا قرأت نصاً شعرياً بمخارج حروف كاملة يخرج اللحن مع الحرف”، وأنا لكوني شاعراً قبل أن أكون ملحناً اعتمد في كلمتي على أن يخرج اللحن معها، وبالتالي فأنا شاعر وملحن في آن واحد لأن أعمالي الغنائية هي من كلماتي وألحاني، ولكن في الحقيقة أميل نحو الشعر. ولا تقف حدود ذلك عند نرجسية شاعر كبير مثل شوقي بحق ملحن اقل ما يقال عنه انه ملحن الأجيال.
بل للشواهد العديدة من هذا الصراع الخفي الذي يدور في كواليس الشعر والموسيقى والغناء، وربما يتساءل البعض لماذا هذا التنافس المحموم بين سلطانين الأغنية، لاسيما وكلاهما يشكلان الذائقة الجمالية للمكون الغنائي الناتج عن هذا التمازج الفني والفكري من خلال وحدة الإبداع السمعي والبصري، كون هناك ترابط بين الكلمة واللحن، فالأغنية تنتهي في وقت واحد كلاماً ولحناً عند المتلقي. إن وحدة التأثير والمساحة الفضائية الزمنية للأغنية تبدأ باعتقادي حينما تخلد، فالأغنية التي لا تحفظ لا تعيش، وحتى تعيش لابد لها أن تكون نابعة من القلب، وأن تكون كلماتها مؤثرة، ولابد أن يكون اللحن موازياً لمعنى الكلمات، والأداء من مقومات الأغنية الأساسية، أغان كثيرة عاشت معنا من مئات السنين، سواء إن كتبت هذه الأغنية بالفصحى أم اللهجة المحكية السهلة ( البيضاء ) فكلتاهما نتاج عصارة مشاعر فياضة اتجاه الحبيب أو الإنسان أو الوطن ، فالقصيدة المغناة باللغة العربية الفصحى لطالما كان لها رسوخها وتأثيرها البالغ في الأسماع ولعل السيدة أم كلثوم هي أكثر من غنى القصائد، إذ يقال إنها غنت أكثر من ثمانين قصيدة في حياتها الفنية منذ بداياتها في العشرينيات وحتى وفاتها. وهو مما لم يتح أو ينجزه مطرب أو مطربة في فن الغناء المتقن في أي عصر أو زمان. أما شاعر الهوى والشباب الراحل نزار قباني، فكانت قصائده التي انتشرت في أزمان متعاقبة بين أيدي الشباب العربي مثل النار في الهشيم، منذ بداية الستينيات والى الآن، ومثال نادر في قصيدته الشهيرة “أيظن” في العام 1960 فلحن عبد الوهاب القصيدة واختار لها الفنانة نجاة الصغيرة، التي سمعت اللحن وتعلقت به جداً لكنها كانت في ذلك الوقت متعاقدة مع شركة “مصرفون” التي يملكها الفنان الراحل محمد فوزي وهو أول من أسس مصنعاً للاسطوانات في مصر، فاعادت “أيظن “ الغناء إلى أجواء القصيدة المغناة لتبرز إلى الواجهة الحضور القوي الطاغي بعد أن بدأت بالانحسار رويداً، كانت تقتصر على قلة من كبار الملحنين والمطربين، لتعلو نغمات أخرى وكلمات اللهجات المحلية والنبرات الشعبية، بالمقابل شكلت القصيدة الشعبية عموداً فقرياً لكثير من وجدانيات بلداننا العربية ،وكما استقبلت قصائد الشعراء الكبار، فان شعراء المحلية استطاعوا أن يقدموا لغة تمتلك من الرصانة والدفء والمشاعر ونجحوا في اختراق أسوار محليتهم باتجاه بلدان تشترك معهم بنفس المشاعر والإحساس ، والدليل هذا الانتشار الرائع للأغنية الخليجية في كل سرادق الغناء العربي . ليس هذا مقصدنا في هذه المقالة بل ثيمة هذا الصراع الدرامي الخفي بين الكلمة واللحن أو كما نبه شوقي عبد الوهاب، وهي العلاقة القائمة بين الشاعر و الملحن و المغني في ميدان التنافس على القلوب، والتي مازالت تشغل المهتمين والمتنفذين من أصحاب الاستوديوهات العملاقة في القاهرة وبيروت ودبي ولندن ، وهذه العلاقة مع التركيز على حالة الشاعر، باعتباره المرحلة الأولى للقصيدة قبل أن تصبح أغنية ترددها الألسن، ويصبح لها صيت في كل الأرجاء، لان الشعر لم يكن يوماً ما أداة للاستهلاك المجاني، فالشعر وسيلة من وسائل حكم ومواعظ، فالشاعر هو بمثابة عالم اجتماع و طبيب نفساني و صحفي ، و بالتالي فهو مؤرخ ، ويشكل بالتالي لحظة الانطلاقة باتجاه النجومية ، وهذا ليس تقليلاً من حقوق الملحن والمطرب، لكن الذي بينهما إن المطرب والملحن في الغالب ما يلتهمان المكارم والعطايا والهدايا ، فيما تذهب حصة الشاعر إلى النسيان . وهذا لا ينطبق على الكل، بل بقدر ما ينضح الإناء بما فيه. أو كما روى الأبشيهي في كتابِه “المُستطْرَف من كلّ فنّ مُستظْرَف” شعراً سقى الله روضاً قد تبدى لناظر به شادن كالغصن يلهو ويمرح وقد نضحت خداه من ماء ورد وكل إناء بالذي فيه ينضح.