فيلم جديد

ثقافة 2019/03/02
...

منير عتيبة
الشخصية
لم يكن نجمًا، لكن مخرجي الإذاعة الثلاثة اضطروا للتنسيق فيما بينهم لتسجيل حلقاته. ينتقل من استديو لآخر بخفة رجل في الخامسة والستين من عمره. يجلس أثناء الاستراحة في مقعده المفضل منذ ما يقرب من نصف قرن. يلتقط أنفاسه ثم يعاود اللهاث بين المسامع. كان بارعًا فى التمثيل باللغة العربية الفصحى. لكن المخرج طلب منه إعادة المسمع ثلاث مرات. كان المخرج يبتلع ريقه وكأنه يستحلب حلاوة التمثيل حيث ينقله الصوت إلى عالم آخر، وتبني ذبذباته تفاصيل هذا العالم. بين كل حلقة وأخرى يجلس فى مكان الاستراحة. يخلع شخصيته، يجلسها مكانه. يذهب لارتداء شخصية أخرى. ثم يعود ليجد شخصيته بانتظاره تقطع الوقت بمضغ الذكريات المرة ولا تتعجل العودة إلى الفراش البارد. يرتديها. يكافئها بفنجان قهوة مغلية بدون سكر. يخلعها. يسرع لاستديو آخر وشخصية أخرى. فى نهاية الليلة وجد الكرسى خاليًا. بحث فى كل مكان، لم يجدها. جلس على الكرسى نفسه وهو لا يعرف ما عليه أن يفعله. كان الساعى آخر من رحل، أغلق الأبواب بعد أن فتش في كل مكان، لكن عينيه لم تريا الرجل الجالس ينتظر.
 
المشهد
يسير ببطء، الضباب يتكاثف حوله، عيناه تلمعان ببريق جنوني، في ملامحه يتعانق خوف المجهول بأمل غامض. شعر المخرج براحة لأنه لن يضطر لإعادة المشهد، فبطله يعطيه أفضل مما يتصور، لأول مرة تكون تعبيرات وجهه وجسده بهذه الطبيعية. يسير ثلاث خطوات أخرى مختفيا فى قلب الضباب.  
«استوب» 
صرخ بها المخرج؛ فكأنه أعطى أمرا لكل من بالموقع ليعودوا إلى الحياة. الكل يجري لتجهيز المشهد التالى..  لكن البطل لم يعد.
 
ماكياج
انتهى من تصوير المشهد، وذهب فورًا إلى حجرته، تتردد فى أذنيه أصداء التصفيق الذى ملّ منه. جلس أمام المرآة. أخذ يمسح الكريمات التى وارت تجاعيده. لا يزال جمهوره يتقبله فى أدوار الشباب، والمنتجون يملأون خزائنهم. فوجئ بوجهه كأنه يراه لأول مرة. لا يمكن أن أكون عجوزًا إلى هذا الحد. العيون المنطفئة، والأخاديد التى تحفر الجبهة والخدين، والأنف الذى افترش مساحة كبيرة من الوجه. والشفاه المتهدلة. نظر حوله بحركة لا إرادية. اطمأن أنه فى الحجرة وحده. ابتسم لنفسه بارتياح عندما تذكر أن هذا وجه الجد فى فيلمه السابق الذى مثّل فيه ثلاثة أجيال. خلع الوجه بسرعة. وبسرعة أكبر خلع وجه الشرير، ووجه الضابط المتسلط، ووجه الزبال، وتوقف قليلًا وهو يخلع رموش المرأة اللعوب التى أدى دورها منذ سنوات. طرقات على الباب تدعوه لتصوير المشهد التالي، بسرعة أخذ يخلع الوجوه التى لم تعد تخصه، فشعر بتعجب: بأي عيون أرى تلك المرآة الخالية؟!
 
مونتاج
لما مر شريط حياتي أمام عيني؛ أعْمَلتُ فيه مقص المونتير، ألقيت كل اللقطات غير المهمة في سلة المهملات، لم تبق سوى لقطات متناثرة على خط الزمن، وضعتها بجوار بعضها البعض، شكَّلَ تتابعها معنىٍ ما، أغمضت عيني محاولًا فهم هذا المعنى.. لكنهما لم تنفتحا أبدًا.