الانتخابات النيابيَّة بعيون شعبيَّة.. أدلة التعافي

منصة 2021/10/04
...

  د.أحمد قاسم مفتن *
 في نقاشات (بوتني) عام 1647 التي أعقبت الحرب الأهلية الإنكليزية، أحيا العقيد وليام رينزبورو الذي كان ضابطاً في البحرية الإنكليزية والجيش النموذجي الجديد في إنكلترا، القضية الأساسية لـلسيادة الشعبية والتي أشار فيها بالقول الى أنه (لا يحق ولا ينبغي لكل إنسان ولد في إنكلترا، لا وفق الشرائع الإلهية ولا وفق شريعة الطبيعة أن يستبعد من اختيار من ينبغي أن يسنوا له القوانين التي يعيش في ظلها). وبهذا فقد أكدت أفكاره ومقولاته تلك التأسيس لـما نطلق عليه اليوم بالديمقرطية الانتخابية، التي تتيح اختيار ممثلين عن الشعب، إذ يقوم الشعب ذاته بانتخابهم ومنحهم شرعية النيابة. وبينما بعد فتحت الأبواب للأفكار ولمناقشات أعمق بشأن الديمقراطية، حتى بذر الاقتراح الأقوى، الذي أشار إلى أن السياسة الديمقراطية كان ينبغي تعزيزها بـمجتمع ديمقراطي حقيقي.
 
 تمثل الديمقراطية الاجتماعية فلسفة سياسية واجتماعية واقتصادية داخل الاشتراكية (وربما مؤخراً خارجة عنها)، تدعم الديمقراطية السياسية والاقتصادية. وكنظام سياسي وصفه الأكاديميون بأنه نظام يدعو إلى التدخلات الاقتصادية والاجتماعية، التي من شأنها أن تسهم في تعزيز العدالة الاجتماعية في إطار نظام حكم ديمقراطي ليبرالي واقتصاد مختلط موجه نحو الرأسمالية. تسعى الديمقراطية الاجتماعية إلى إضفاء الطابع الإنساني وتهيئة الظروف لها، لتؤدي إلى نتائج ديمقراطية ومساواة وتضامن أكبر. تتميز بالتزام سياسات تهدف إلى الحد من عدم المساواة، والقضاء على اضطهاد الفئات المحرومة، والقضاء على الفقر، فضلاً عن رفع منسوب التعليم والمتعلمين وجودة مؤسسات النظام التعليمي، ودعم الخدمات العامة التي يمكن الوصول إليها عالمياً من قبيل رعاية المسنين ورعاية الأطفال وذوي الإعاقة، والرعاية الصحية وتعويضات العاملين.. وغيرها، والتي تكون غالباً لها صلات قوية بالحركات العمالية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني التطوعية، حيث تكون الديمقراطية الاجتماعية داعمة ومعززة لحقوق المفاوضات الجماعية وتدابير توسيع عمليات صنع القرار خارج السياسة إلى المجال الاجتماعي الاقتصادي ليشارك فيها ويصنعها أصحاب المصلحة بأنفسهم. 
 تمرُّ التجارب الديمقراطية الناشئة والفتية بعدة أطوار وتحولات حتى تنضج وتكتمل وتصبح راسخة. ولتتحول الديمقرطية من مجرد ممارسات مبثوثة من الأعلى عبر القوانين والتشريعات والإجراءات الظاهرية الشكلية من قبيل تشكيل التنظيمات السياسية والأحزاب والترشيح والدعاية الانتخابية والمناظرات والحوارات والبرامج الانتخابية والتصويت وحتى الوصول إلى التداول السلمي للسلطة، تحتاج أيضاً وبالضرورة أن تكون مضموناً ثقافياً واجتماعياً وسلوكياً يعبر عنه المجتمع في تفاعلاته اليومية وفي واقعه المعاش، وليس سياسياً فقط.
 
نضوج التجربة الديمقراطيَّة
 تتباين المجتمعات وتختلف في ما بينها بمدة التحول تلك، بحسب خصوصية كل مجتمع وظروفه وامكانياته ومدى استقراره السياسي والاجتماعي، فبعض البلدان تكون مدة تحولها نحو الديمقراطية الاجتماعية قصيرة ولا تتجاوز العقد من الزمن، وبعضها الآخر تحتاج إلى وقت أطول يوصف بأنه متوسط، إذ يمتد بين (20- 30) سنة، بينما تمتد وتتطلب التجربة مع بلدان أخرى إلى أمد طويلً يقدر بين (50- 60) سنة، حتى تنضج تجربتها الديمقراطية وتكتمل، وربما يحتاج بعضها الآخر إلى قرنٍ أو أكثر من الزمن.
 بالتأكيد لسنا من البلدان التي تتطلب مدة زمنية قصيرة للتحول نحو الديمقراطية الراسخة، نتيجة لاضطراب وتعقيد وضعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا نستطيع التقرير إن كنا ضمن التصنيف المتوسط أو الطويل، الأهم في الحالة العراقية ونحن على أعتاب التجربة الانتخابية الخامسة (أربع دورات برلمانية، فضلاً عن تجربة التصويت على الدستور)، وبعد مرور نحو ثمانية عشر عاماً، بكل ماحملته من إرهاصات وأحداث وتفاعلات وجب علينا أن نتساءل ما أبرز التطورات الإيجابية، التي يمكن رصدها وإقامة الدليل عليها بشأن التجربة الديمقراطية في العراق منذ العام 2005 وحتى وقتنا الراهن؟ هل ثمة دليل بأن تجربتنا الديمقراطية في تعافٍ مضطرد وتسير بالاتجاة الصحيح؟ تبدو الاجابة على التساؤلات آنفاً عصية وغير قطعية، لكن المحاولة في الاجابة عليها تبدو ضرورة تستحق المخاطرة. بشكل عام وعلى نحو تأملي ومراجعة سريعة بالإمكان وصف أبرز التطورات التي تعد إيجابية في العملية الانتخابية، وهي على النحو الآتي:
1 - تشريع قانون الأحزاب.
2 - التحول من نظام الدائرة الواحدة (العراق دائرة واحدة) إلى نظام الدوائر المتعددة.
3 - ارتفاع وتزايد أعداد الحركات والأحزاب والتحالفات، فضلاً عن الترشيح الفردي.
4 - كسر التحالفات الجماعاتية (دين/ مذهب، قومية، عشيرة، حزب) إلى التحالفات المتنوعة.
5 - نمو الحركات التي يقودها المدنيون والتكنوقراط والمستقلون.
6 - تشكل أولي لبذرة معارضة برلمانية وكسر طوق نظام التحصيص المحكم.
7 - تطور في أساليب الدعاية الانتخابية وطرائق نشرها إلى أساليب حضارية قابلة للإزالة ومن دون أضرار، بعد إن كانت تتجاوز وتعبث بالممتلكات العامة من ساحات وطرقات ومقتربات، فضلاً عن الممتلكات الخاصة كاللصق على الجدران وحفر الأرصفة والصبغ ورش الحيطان وأعمدة الانارة ونواقل الطاقة .. ألخ.
8 - ارتفاع منسوب النقد والاحتجاج والتشخيص والتحليل (لمختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها في التشريع والتنفيذ وطرائق الادارة واستخدام السلطة) والمطالبات بالتغيير والتطوير عبر أساليب متنوعة من قبيل: البرامج الإذاعية والتلفزيونية، المقالات والتغريدات والتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، الصحف، كتابة المقالات والبحوث والدراسات، إقامة المؤتمرات والندوات والورش، تنفيذ المسوح واستطلاعات الرأي العام، والظهور في البرامج الحوارية والمقابلات التلفزيونية، فضلاً عن التظاهر والتجمهر.
9 - تشكيل أول حكومة (رئيس مجلس وزراء ووزراء) مستقلين وغير منتمين لحزب بشكلٍ مباشر.
10 - تغيير مستمر لمجلس المفوضين وقانون المفوضية المستقلة للانتخابات وآليات وتعليمات انتخاب واختيار أعضائها ورئاستها.
11 - تطوير وتحديث سجل الناخبين والبطاقات الانتخابية من الورقية التقليدية إلى الالكترونية، ثم إلى الالكترونية البايومترية.
12 - تطوير أجهزة تنفيذ عملية الانتخاب وإجراءات الرقابة لتقليل فرص التزوير والتلاعب.
13 - زيادة الإشراف والرقابة الأممية والدولية على الانتخابات، فضلاً عن الرقابة الداخلية المحلية المتمثلة بمنظمات المجتمع المدني وممثلي الكيانات والأحزاب.
14 - دخول جيل جديد (مواليد جديدة) للمشاركة في التصويت والترشيح، أغلبهم غير متأثرين بمرحلة النظام السابق أو هيمنة ايديولوجيا الأحزاب المعارضة للنظام.
15 - زيادة وعي المواطنين وخبراتهم وتجربتهم بالعملية السياسية وتقييم أداء السياسيين، فضلاً عن كسر حاجز الخوف من السلطة ونقدها والخروج عليها.
16 - لأول مرة يجري إصدار تطبيق إلكتروني تحت مسمى (أنا البرلمان)، يمثل التطبيق حلقة وصل بين الناخب والمرشح، يساعد هذا التطبيق على الاطلاع والتعرف على المرشحين الذين يقعون ضمن الدائرة الانتخابية للناخب، ويزودهم بالمعلومات كافة التي يرغبون بها عن المرشحين ضمن دوائرهم الانتخابية. حاز تطبيق (أنا البرلمان) على المركز الثامن من بين التطبيقات الأخرى المستخدمة عبر محرك البحث (Google Play).
 
مؤشر الديمقراطيَّة
لا يقف وصف النمو والتطور المفترض في العملية السياسية والتجربة الديمقراطية الناشئة والفتية العراقية عند ما جرى ذكره آنفاً، قد يتعداها لحالات وقضايا أخرى لم يتم ذكرها، الأهم من ذلك الرصد أن نعرف أين نقف نحن وما ترتيبنا وفقاً لمؤشرات الديمقراطية عالمياً؟ وما الذي علينا فعله في القادم للارتقاء والتقدم في الترتيب العالمي؟. يستند مؤشر الديمقراطية على (60) مؤشراً مجتمعين ومصنفين في خمس فئات متنوعة تتمثل بـ (العملية الانتخابية والتعددية، الحريات المدنية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، والثقافة السياسية).
 يتم تصنيف الدول بحسب المؤشرات تلك إلى (ديمقراطيات كاملة، ديمقراطيات معيبة، أنظمة هجينة، وأنظمة سلطوية). تشير خريطة مؤشر الديمقراطية لعام 2017 ( بحسب تصنيف وحدة استخبارات الإيكونومست) والذي شمل (167) دولة، والتي تمت تغطيتها في التقرير، بأن العراق يقع في الرتبة (112) عالمياً، ويصنف ضمن الدول الهجينة، وحصل على متوسط نقاط (4.9)، علماً إن الدرجة الكاملة تمثل (10) نقاط، أي أن العراق أقل بعشر من درجة تخطي نصف قيمة التقييم التي تمثل عقبة النجاح. وعلى صعيد الفئات الخمس حصل العراق في مؤشر العملية الانتخابية والتعددية على (4.33)، أما في تصنيف أداء الحكومة فقد بدا متراجعاً جداً وهو المؤشر الاساس المتسبب في إنخفاض متوسط التقييم، إذ حصل على (0,07)، بينما حصل في مؤشر المشاركة السياسية على (7,22)، وهو التقييم الأعلى من بين التصنيفات الخمسة، كما حصل في تصنيف الثقافة السياسية على (5) درجات، في حين جاء تحصيل تصنيف الحريات المدنية على (2,94) نقطة فقط.
 وفقاً للمؤشرات أعلاه ودرجات التحصيل يظهر أن الأداء الحكومي ونماء وتعزيز الحريات المدنية يمثلان عائقين أمام تطور الديمقراطية وترسيخها في العراق. بل ان اختيار حكومة رشيدة مستقلة وكفوءة من شأنه أن يعزز تحصيل البلد في جميع التصنيفات الخمسة المشار إليها آنفاً. وليتحقق ذلك يحتاج ويتطلب من العراقيين جميعاً مشاركة فاعلة في الانتخابات المقبلة، واختيارات نوعية واعية للمرشحين، ما يتيح انتاج برلمان كفوء وصعود للشخصيات والقوى الوطنية، التي تقع عليها مسؤوليات اختيار حكومة قادرة على تطوير البلد وتعزيز الديمقراطية وتجذيرها سياسياً واجتماعياً. 
 
* باحث واكاديمي