عبق الماضي

منصة 2021/10/06
...

  نهى الصراف
أمر غريب.  كيف يمكن لأغنية قديمة أن تستعيد أجزاء من مشاعر اللحظات التي رافقتها أثناء الاستماع إليها للمرة الأولى بكل ما تحمله من تفاصيل مهما كانت تبدو للوهلة الأولى عابرة وغير مهمة، يحدث هذا أيضاً مع نصوص قصصية أو أفلام وأعمال درامية يرتبط وقت مشاهدتها بزمن أو لحظة ما في منطقة تخصنا في الماضي.
 
مضى وقت طويل منذ أن تسنى لي الاستماع إلى أغنية، أياً كانت، فأنا لست من عشاق الأغاني التي يستعين بها بعض الناس لتمرير الوقت الثقيل عادة أثناء القيام بأعمال المنزل أو ما شابه من أعمال يدوية مملة. 
ومثلها تلك الموسيقى والأغاني التي تهذب طقوس الكتابة، وهي في هذا الخصوص قد تترك انطباعاً سيئاً فتضيع التركيز وتشتت الانتباه اللازم للتعامل مع الكلمات 
والأفكار.
كنت أستمع هذا الصباح مصادفة إلى أغنية قديمة لعبد الحليم حافظ، بعد أن لمست أناملي بصورة عشوائية موقع يوتيوب في شاشة هاتفي. 
فجأة، تسربت نغمات مألوفة ودافئة تعرفني وأعرفها مثل شلال ماء عذب وكانت تبعدني عنها مسافة عشرون عاماً في الأقل؛ رأيت ابتسامة أمي ووجه صباح بعيد، شممت رائحة التراب على عتبة منزلنا القديم، عطر زهرة (الجهنمية) على سور بيت الجيران، تذوقت الشاي بالهيل وكانت ذاكرتي تمسك بثوبي الأزرق المطرز بأزهار بيض وتحركه يميناً وشمالاً مثل نسمة ربيعية، ثم تتالت الذكريات؛ صوت الرجل صاحب العتيق وصراخ الأطفال وهم يتلاقفون الكرة في الساحة القريبة.  
كل هذه الأصوات البعيدة اقتربت كثيراً، اقتربت أكثر من اللازم فرأيتني وأنا ابتعد برأسي صوب النافذة أبحث عن سماء أخرى، لكن الطقس كان محايداً والمكان محايداً وحاضراً بقوة فخيّل إلي أنَّ الزمن قد توقف أو أنه لم يمرّ على كل هذه السنوات ولم تمرّ عليه.
يحدث هذا أيضاً عندما نترفع عن عمل سينمائي حديث خرج لتوه ساخناً من علبة الإعلانات، لنختار إعادة مشاهدة لفيلم قديم نعرف نهايته مسبقاً، العبرة ليست في النهايات دائماً، الأهم، أن نسترق رهافة المشاركة في تجربة سارّة حتى إذا كانت مكررة ويبقى الإطار الذي يرسم حدود هذه التجربة، هو الماضي 
وعبقه.
قائمة طويلة من خيارات القراءة؛ قصص، روايات، كتب تاريخ، فلسفة، سياسة، كتب ورقية، إلكترونية وحتى سلسلة الكتب المسموعة التي يمكنها أن ترافقنا عبر المواصلات العامة وصالات الرياضة، في المطبخ أو غرفة الطعام.  لكن يبقى الكتاب الأثير إلى أنفسنا..  راسخاً في مكانه المعتاد، على الطاولة المجانبة لسريرنا؛ الكتاب الذي يشبه حكايات الأمهات..  الكتاب الذي تسنى لنا قراءة صفحاته أكثر من مرة وربما بذلنا جهداً حقيقياً لإكماله في وقت قصير، فقط، ليتسنى لنا إعادة القراءة من جديد!
يتم نسيان الحدث الرئيس بالتقادم أو تتلاشى الأحداث القديمة بالتدريج، إلا أن مشاعرنا التي رافقتها لا يمكن أن تمحى من ذاكرتنا. 
هناك شيء ما يشدنا إلى كل ما يتعلق بالماضي، ورغم أن الرجوع إليه غير آمن في كل الحالات لكنه يبقى الخيط الوحيد الذي يسحبنا - رغم رهافته - إلى تلك المناطق المهجورة في ذاكرتنا حيث تتجمع كل الأشياء العزيزة على قلوبنا.