الكتابة والفعل النهضويّ

منصة 2021/10/06
...

أ.د. مها خيربك ناصر

بعيدًا عن الفعل وردة الفعل، وعن المعجم والتوثيق، وعن النقل والرواية، والأخذ وقداسة الموروث، وعن صنمية القامات وملكية الكراسيّ، يجوز القول إنّ الكتابة، قبل كلّ شيء، هي رسالة الذات إلى ذاتها، أولاً، وإلى الآخر، تاليًا،  وهي  منطوق عقلٍ يعقل ذاته، ويقيم مصالحة مع الذات والآخر، بواسطة كلمات تختزل كوامن النفس البشريّة، وتعبّر عن موقعها، وقلقها، وأحلامها، ورغباتها، وقنوطها، وحلمها، في لحظة تتسم بالكشف والتعري، وتصبو إلى وصال فكريّ، في فضاء معرفيّ متحررٍ من التموضع، والتمذهب، والتسيس، والقرصنة الفكريّة، فتكون الكتابة، بهذه الرؤية، فعلاً نهضويًّا يؤسّس لمسارات تتلاقى، مهما تنوّعت، في مركزيّة الإشعاع الحضاريّ الإنسانيّ الكونيّ. 
تفرض الكتابة نفسها، إذًا، فعلاً إبداعيًّا ممهورًا بقوة التأسيس لنهضة فكريّة يتبنّى تكريسها، حضورًا متجددًا وفاعلًا، كاتبٌ مبدعٌ  ومثقفٌ  وحرّ وشجاع وكريم النفس وزاهد بلمعان الفضة والذهب وببلوغ المراكز ونيل الجوائز، لأنّه الرائي القادر على رصد فاعليّة السكون ومن ثم تحويله إلى كمون حركيّ يغيّر الواقع، ويبشّر بفعل قيامة يطأ الراهن والآنيّ والسكونيّ، ويحقّق أهداف رسالة كتبت بدم الانتماء إلى فضاء الصدق والحريّة، فيكون مثله الأعلى بيدبا الفيلسوف  الذي استطاع بصدق رسالته النهضويّة أن يحوّل دبشليم الملك عن الغي والظلم إلى العدل والاستقامة والنزاهة، وأن يجعل من أفكاره مرجعًا سياسيّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا وفكريًّا وحياتيًّا. 
إنّ الكاتب النهضويّ، إذًا، قادر على فتح الأبواب المغلقة، وعلى إعلان الجهاد ضدّ التخلف، والقمع، والترهيب، والاستلاب، والنفعيّة، والاستزلام، إنّه المتمرد على الشعور بالإمتلاء، وبالتفوّق، وعلى رفض الأساليب الملتوية التي تجعل من كتابات المتملقين  قوالب جاهزة للعرض والطلب، لتدخل سوق المنافسة الماديّة، حيث تتناطح مصطلحات وكتابات لا إبداع فيها، ولا ثقافة تنبئ بنهضة، وبخاصة ما جاء منها مموهًا بتعمية وتضليل، غايتهما إقناع المتلقي بعظمة ما يُكتب، وبغرابته، وبفرادته، ونيل الإعجاب بكتاب غامضة يُسند غموضُها وإبهامها وتشظيها إلى أبعاد فلسفيّة؛ ليتضاعف الإعجاب بلغه كاتب وظّف التعمية مطية تضليل ووصوليّة.
إنّ للكاتب  النهضويّ دورًا رئيسًا في إصلاح المجتمعات، وفي تصويب الخلل الاجتماعي والسياسيّ، فهو الناصح الأمين وليس المحابي المضلل، وهو الحرّ الشجاع ، وليس التابع الجبان اللاهث وراء المراكز والجوائز والربح الماديّ، وهو الأستاذ المشارك في تشكيل الفكر الحر، وليس الأستاذ القامع أسئلة الشك، إنّه قبل كل شيء المنارة التي يهتدي به جيل من الشباب السائر نحو مستقبله بحماس يغتاله كُتّاب يجيدون التدريب على سرقة فتات الموائد، سواءٌ أكان ذلك في المؤسسات التربويّة أم الثقافيّة والاجتماعيّة.
 الكاتب النهضويّ، إذًا، نبي يشعل من حرية كلماته وأفكاره رؤىً يضيء بها النفوس المُعمّدة برغبة التغيير والنهوض، فمتى تكون نهضتُنا؟