انتخابات تشرين.. تنافس تمثيلي وصراع مكوّناتي
منصة
2021/10/06
+A
-A
د. عبد الخالق حسن
في اللحظة التي ستعلن فيها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نتائج الاقتراع، التي ستفرزها الصناديق، سيعود الجدل من جديد، مثلما هو متوقع، من أجل تشكيل الحكومة وإفراز متطلباتها. وقبل هذا طبعا، ستخوض الكتل السياسية حوارات وتجري مفاوضات من أجل اختيار رئيسي الجمهورية ومجلس النواب.
ومثل كل انتخاباتنا السابقة، ستحافظ هذه الانتخابات على السياق التقليدي الذي اعتادته الكتل السياسية، حين تسير على الطريق نفسه الذي رسمه العرف السياسي سابقا من حين ذهاب رئاسة الجمهورية إلى الكرد، وذهاب رئاسة البرلمان إلى السنة. في حين ستخوض الكتل الشيعية صراعات كبيرة من أجل تسمية رئيس الحكومة الذي ستعهد له مهام إدارة شؤون الدولة خلال السنوات الأربع المقبلة.نخوض هذه الانتخابات مع حضور متغيرات كثيرة طرأت في الساحة العراقية. أو ربما نقول إنها عادت للظهور من جديد ولم تكن طارئة. نعني هنا مثلا متغير الفعل الاحتجاجي الذي كان له الأثر الكبير في إعادة رسم الوضع السياسي، خصوصاً مع ما رافقه من أحداث كادت تعصف بالبلد وتقوده إلى هاوية سحيقة، بسبب الشد الحاصل بين المحتجين والإدارة الحكومية، فضلا عن الالتباسات الكثيرة التي رافقت سلوك الطرفين. بحيث إن الأمور وصلت الى مرحلة التصادم العنيف. وليس هذا فحسب، بل إن المتغيرات الإقليمية والدولية جعلت منها جميعا بمثابة الضاغط على الداخل العراقي، الذي يتأثر كثيرا بما يحدث بسبب هشاشة الوضع الذي نعيشه وعدم استقرار البناء السياسي. لهذا توصف هذه الانتخابات بأنها الشرس والأخطر منذ بدء العملية السياسية بسبب كل هذا الذي ذكرناه آنفاً. وهنا لا بأس لنا من أن نستعرض طبيعة الصراعات داخل المكونات في ما بينها، مع فتور هذه الصراعات بين المكونات بعد أن كان هذا الصراع هو المتحكم بالعملية السياسية. والسبب هنا يعود إلى أن قانون الانتخابات جعل التنافس على المقاعد النيابية يتحرك في إطار التفاصيل الداخلية لكل مكون. فهناك تنافس حزبي. ولدينا تنافس عشائري. وكذلك يبرز تنافس مناطقي. فضلا عن وجود تنافس في رؤية كل فريق تجاه طريقة إدارة الدولة والموقف من السياسة الخارجية والإقليمية تجاه العراق، فضلا عن اختلاف وجهات النظر تجاه طبيعة التعامل السياسي مع كل الدول المؤثرة في المشهد العراقي. وكل هذا طبعا يحدث بسبب التنافس الانتخابي.
صراع المحاور داخل المكون الشيعي
تنقسم الكتل الشيعية إلى ثلاثة اتجاهات تكاد تكون هي الغالبة على واقعها الانتخابي. الاتجاه الأول يمثل ما يمكن تسميته (محورالكتل القريبة من خط المقاومة). وهذا المحور الذي يقوده تحالف الفتح ويقترب منه تحالف دولة القانون يؤمن ببعض المتبنيات، التي تمثل الحجر الأساس لبرنامجه الانتخابي. منها مثلا الموقف من الوجود الأميركي الذي يرى فيه هذا المحور السبب الرئيس في تدهور الأوضاع الداخلية للعراق. وأن هذا الوجود يعمل على تعطيل انتقال العراق من مرحلة العملية السياسية التي تعني عدم اكتمال المؤسسات وغياب الاستقرار الى مرحلة الدولة المكتملة الأركان والمؤسسات والحضور. ومع كون هذا المحور او الاتجاه مشتركا بقوة في التمثيل النيابي، فضلا عن دوره في تشكيل حكومة عبد المهدي. لكنه منذ استقالة عبد المهدي عاد ليتحرك في دائرة الرفض والاستهداف للوجود الأميركي حتى بالقوة المسلحة، بعد أن كان يتخذ الخيار السياسي بوصفه الحل الأمثل لمعالجة قضية هذا الوجود. هذا الامر الذي يتعلق بوجود القوات الاميركية بالذات كان مثار خلاف بين اتجاه الفتح والحشد والفصائل، وبين الاتجاه الثاني الذي يطلق على نفسه محور (قوى الدولة) وهو ممثل بتيار الحكمة وتحالف النصر. وهذان التياران اللذان عقدا تحالفا انتخابيا، يعتقدان ان التعامل مع قضية الوجود الأميركي يجب ان يخضع للمسار السياسي فقط من دون اللجوء الى خيار المواجهة العسكرية. لأن هذا الاتجاه يرى أن العراق ما زال محتاجا للقوات الاميركية لكن بصفتها قوات استشارة وتدريب، فضلا عن الحاجة الى ما يقدمه الجيش الأميركي للعراق من معلومات ومساعدة جوية في العمليات التي تستهدف العصابات الإرهابية. لذلك يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن العراق يجب أن يتعامل ببراغماتية مع أميركا، لأنها دولة عظمى لا يمكن الاستغناء عنها، وكذلك لأن العراق يحتفظ بأمواله في حساب خاص في البنك الفيدرالي الأميركي، الذي يوفر الحماية لهذه الأموال ويمنع مصادرتها من قبل الدول، التي ما زال للعراق متعلقات مالية لصالحها، بسبب تراكمات الحروب التي ابتلي بها العراق في ظل الدكتاتورية. وكذلك فإن أصحاب هذا الاتجاه برغم انهم محسوبون دوما على ما تسميه أميركا (اتجاه الاعتدال في المنطقة) وهي تسمية سياسية تستعملها اميركا في مشاكساتها ومناوشاتها مع ايران، هو التصور نفسه الذي يحمله عنهم اغلب اركان الاتجاه الأول. لكن أصحاب الاتجاه الثاني، أي الحكمة والنصر، يقولون إنهم يحاولون النأي بالعراق عن صراعات المحاور الدولية او الاندماج في أحدها، مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الجميع. وهنا يرد الفريق الرافض للخط الأميركي بأن أميركا أصلا هي عنصر غريب عن المنطقة، وان وجودها اصبح مضرا بالمنطقة والعراق، ودليلهم في هذا حادثة المطار التي كان الشهيد ابو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد احد ابرز المستهدفين فيها، فضلا عن الحوادث المتكررة لاستهداف مواقع الحشد. وهذه التفاصيل التي ذكرناها، تمثل أبرز نقاط الخلاف بين هذين الاتجاهين، حتى انها صارت جزءا أساسيا في حملتهما الانتخابية، بل اكثر من ذلك، فإنها جزء فاعل أيضا من البرنامج الانتخابي الذي وعد به الطرفان جمهورهما.
اما الاتجاه الاخر، فإنه يمثله التيار الصدري، الذي تحولت تسمياته وتكتيكاته الانتخابية تبعا لتغير الظروف التي كان يدرسها بدقة. في الحسابات والفحص العام قد يجد الكثير أن أفكاره تقترب من أفكار الحكمة والنصر، وهو طبعا لا يخفي قربهما منه في الاتجاه السياسي. لكن في السلوك العام، يسلك التيار الصدري مسلكا خاصا به يجعله يمثل اتجاها لا يماثله اتجاه آخر. وبرغم الوضوح الشديد الذي يخاطب به أنصاره في جانب البرامج والحملات الانتخابية، لكنه يحتفظ بالكثير من الغموض الذي يجعله اقوى في أوقات التفاوض بعد كل انتخابات. وان كان قد اعلن صراحة أنه يرغب في قيادة الحكومة المقبلة بعد ظهور نتائج الانتخابات، اعتمادا على ما يقول إنه مؤشرات تدل على حصوله على المركز الأول على الصعيد الوطني. لكن مع هذا لا تخلو برامج او خطابات التيار من مشاكسات وتقاطعات بشكل كبير مع اتجاه الفتح، بالرغم من أن الاثنين كانا الراعيين لتشكيل حكومة عبد المهدي. حتى مع إعلان انسحاب السيد الصدر واعتزاله الحياة السياسية، لكن تحركات هادي العامري مثلما تسرب كانت أهم أسباب عودة السيد الصدر بسبب ما قال عن أنه عاد بعد تدخل أحد الذين يثق بهم. لكن يبقى الأهم في كل هذا هو الكيفية التي ستدير بهذه الاتجاهات الثلاثة، مسألة تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء. وان كانت هناك تسريبات ترجح أن يكون رئيس الحكومة المقبل هو شخص من خارج هذه الكتل أيضا، بمعنى ان هذه الكتل ستعيد تجربتي عبد المهدي والكاظمي، أي اختيار رئيس حكومة ليس من الفائزين بمقعد نيابي.
وربما كان حديث الشيخ قيس الخزعلي الأمين العام لعصائب اهل الحق قبل أيام يدور في هذا المدار، حين حاول تخفيف حدة الصراع اللاحق لظهور النتائج والتوافق على شخص رئيس الحكومة من خارج المنظومة الحزبية الشيعية، لكنه طبعا سيكون شيعيا مستقلاً.
صراع الزعامة عند السنّة
لا شكَّ في أن طبيعة الصراع الانتخابي داخل المكون السني تكاد تنحصر اليوم بين فريقين او تحالفين انتخابيين هما (تحالف تقدم) الذي يتزعمه رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي.
والفريق الثاني هو فريق (تحالف عزم) بقيادة خميس الخنجر.
وعلى الرغم من أن برامج التحالفين الانتخابية تتحدث عن اعمار المناطق المحررة من عصابات داعش الارهابية، وكذلك انشغالها بمسألة النازحين، فضلا عن طرحها لبرامج تتعلق بالجانب السياسي والاقتصادي، لكن الواضح ان كلا من الحلبوسي والخنجر يخوضان صراعا مريرا على زعامة المكون السني، الذي دائما ما يشكو اهله من تشتت قرارهم وانقسام توجهاتهم الى اتجاهات أضرت كثيرا بمصالح هذا المكون، لهذا يدعم انصار الفريقين قائديهما في سبيل الوصول الى لحظة حاسمة، تفرز فيها الانتخابات زعامة سنية قوية تستطيع تمثيل المكون وتطلعاته. لهذا يبدو صراع الانتخابات في الوسط السني بأنه يسير الى البرلمان، لكنه يحمل معه فكرة ظهور زعيم سني يستطيع تعويض الإخفاقات السابقة، خصوصا مع دعم الحرس القديم من القيادات السنية لهذا الامر، وطبعا هنا هم منقسمون أيضا في الدعم، فبعضهم ذهب باتجاه دعم الحلبوسي، في حين سار بعضهم في طريق دعم الخنجر.
والغاية طبعا هنا من محاولة بلورة فكرة الزعيم السني هي تقوية موقفهم في بغداد. وان كان الامر حسب ما أرى متعلقا بقضية الإقليم السني وزعامته مستقبلا، خصوصا مع وجود تيار شعبي لا بأس به يدعم فكرة الذهاب نحو الإقليم من اجل إدارة شؤون حياتهم، بعيدا عن إجراءات بغداد مستعينين في هذا بتجربة إقليم كردستان.
صراع كسر احتكار التمثيل الكردي
في البيئة السياسية الكردية يتفق الحزبان الرئيسان (البارتي واليكتي) على آليات تقاسم السلطة داخل الإقليم، فضلا عن تقاسم تمثيل الكرد في بغداد.
وبالرغم من شراسة الصراع التاريخي بين هذين الحزبين، لكنهما في سنوات ما بعد 2003 تضامنا على ضرورة الحصول على اكبر قدر ممكن من المكاسب داخل الإقليم وخارجه. وحتى الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية التي شاركتهما الحكم هناك كانت تتعامل مع الامر بواقعية في كون التنافس مع الحزبين على تمثيل الكرد بقوة يمثل ضربا من الخيال.
لكن في السنوات الأخيرة برزت تيارات حزبية شبابية استطاعت ان تقنع الناخبين الكرد ببرامجها، وكان من ضمن هذه البرامج هي المطالبة بكسر احتكار الحزبين للحياة السياسية في الإقليم، فضلا عن استحواذ الحزبين على المغانم الكبرى في بغداد. من هذا الأحزاب نذكر الجيل الجديد. وايضا هناك كتلة حزبية برلمانية اسمها المستقبل. وعماد هذين الفريقين هو عناصر شبابية ترى أن الحياة السياسية في الإقليم يجب ألا تدار فقط من قبل الحزبين، وانه يجب على بغداد أن تتعامل مع الجهات المعارضة هناك بواقعية وجدية، وألا تكون المصالح الحزبية هي المتحكمة بسلوك بغداد في مايخص تمثيل الكرد فيها.
خلاصـة
إن الوضع في العراق يتعرض دوما الى مراحل شد وجذب قبل الانتخابات وبعدها، وهذا الامر صار بدهيا حتى أنه يمكن أن يكون قاعدة عامة. العلامة الفارقة لهذه الانتخابات مثلما قلنا هو ترحيل الصراع بين المكونات، الذي كان أبرز ملامح العملية السياسية الى داخل المكونات نفسها بفعل مستجدات القانون الانتخابي.
ومع كل ما يمكن أن يثير المخاوف، لكن تظل الأمور تسير بالاتجاه الصحيح ما دام التنافس والصراع الانتخابي يقعان في دائرة التنافس السلمي
الديمقراطي.