بإمكان قصيدة التفعيلة التباهي بتقنيّات تنافسُ زخمَ المعنى بكماليات لا تلبسها تهمة البلاغيات.
وهذا رهن ذكاء الشاعر في استجلابه تلك التقنيات ومعاملة النص بدقة، وهي تشبه رميَ الحجر في الماء، ماء النص، إثارةً لأشكال الماء لإنتاج أنهار صغيرة في سياق النهر الكبير.
وعرضُ النماذج صعبٌ لسهولته، لوفرة هذه الذكاءات بنصوص كثيرة، وقد يصعب، لاعتراض خبيث يفاجئ الفكرة:
سأنتقي شكلاً واحداً من أشكال التصرف في الوزن، وشاعراً واحداً موضوعاً له، بعض النماذج التي نويت عرضها ولم تتسع الدراسة (لمفيد البلداوي وعماد جبار وعارف الساعدي وعادل الصويري) ملتزمة بالنسق التفعيلي (التقليدي) وبعضها تمرّدَ، وكأنّ هناك رغبةً في خلق نمط من شعر التفعيلة جديدٍ داخل شعر التفعيلة الذي وسمتُهُ بالتقليديّ، وسأقتصر على الشاعر العراقي محمد علي الخفاجي.
يقول الخفاجيّ:
فعلى مشهدٍ من عيون الشرائعِ
قتلوا نخلةً وبنيها
دحرجوا كوكباً ساطعاً في المياه
ألقوا بدجلةَ مكتبةً ثقلُ أسفارها ذهبٌ
يومَ قيلَ لعثمان
صعودك في القفر مئذنة ...
ودجلةُ يهرعُ من خلفنا ويصيح إلى أين
سلة الذكريات
أين أمضي بها؟ ...
إلى أين؟
إلى أين ؟
إلى أين؟
واختنقتْ عبرةٌ
دون أن يُرجِعَ الضفتين.
قبل القراءة العروضية، أحبُّ أن أظنّ أنّ الذي فرض على الخفاجيّ هذا النمط، إنما هو (تَخَيُّل) الالقاء، وما هو تخيل الإلقاء؟
الفعلان (تخيّلَ: الانغماس في الخيال/ تخيلَ: ركوب الخيل) يصلحان مثالاً لتعميق (فكرة الظن) التي راودتني، فالشاعر أثناء الكتابة (يتخيّل) إلقاءَ قصيدته أمام الجمهور، وما دام هو على المنبر فلَهُ (تخيّلُه) تَخَيُّلَ الفارس فرسَهُ، وغيرُ غائبةٍ قربى الدلالة بين لفظتي (الخيل والخيال) فكلاهما يجمح ويذهب بعيداً. هذا (الخيال) يمنحُ الشاعرَ فرصةَ سماع صوته الخفي عالياً، فلا يكاد يقول جملةً حتى يبلغ نهاية مقنعة من الموسيقى تشغله عن إتمام التفعيلة.
ولي أن أستعير من النحو فكرة أطبقها على الشعر، فهناك أسلوبٌ يُحذفُ فيه آخرُ حرف من المنادى، يسمى (الترخيم).
في نص الخفاجيّ نجد هذا الحذف في التفعيلة (خرم آخر التفعيلة) بأمثلة كثيرة.
ولعل أحدَ الأسباب لولادة هذا النوع من التجديد في شعر التفعيلة لدى الخفاجي هو تلمذته على الشاعرة المؤسِّسة نازك الملائكة، وكأنه أراد تبنّي تمرُّدِها في كتابة الشعر المغاير للسائد، لا قوانينِها التي وضعتها لشعر التفعيلة لاحقاً، أعني ما فصّلتهُ في (قضايا الشعر المعاصر).
قال الخفاجيّ:
فعلى مشهدٍ من عيون الشرائعِ
قتلوا نخلةً وبنيها
سأقطّع الأشطر لمعرفة مجال مخالفة الشاعر قانونَ التفعيلة.
فعلى: فعلنْ/ مشهدنْ/ فاعلنْ/ منعيو: فاعلن/ نششرا: فاعلن/ ئعِ: فعِ.
انتهى الشاعر سطره بـ (ئعِ: فعِ) وهو جزءُ تفعيلة لم تتمّ، لم يتمّها في السطر الثاني، وبدأهُ بتفعيلة تامة تشكل مع أخواتها اللائي جئن بعدها شخصية وزنية مستقلة لا ترتبط بالسطر السابق:
قتلوا نخلةً وبنيها: فَعِلن فاعلن فاعلا/ تن (فاعلن فا)
كأنه حين قال (من عيون الشرائع) تخيل إتماماً للموسيقى في صوته الذي تخيله ثم أهمل الامر وجاء بشطر تام لا يتصلُ بسابقه موسيقياً.
وقال:
دحرجوا كوكباً ساطعاً في المياه
ألقوا بدجلةَ مكتبةً ثقلُ أسفارها ذهبٌ
أليس الاجدر في ضبط الوزن أن يقول:
دحرجوا كوكباً ساطعاً في المياهِ
وألقوا بدجلةَ مكتبةً ثقلُ أسفارها ذهبٌ
حذف الواو من أول الشطر الثاني (خرم) لكنه لا يصحّ في الشعر القديم، لأنه لم يأتِ أولَ البيت، ونحتاج لتطبيقه قصيدةَ شطرين، وبما أن شعرَ التفعيلة شعرُ الشطر الواحد، كما قررته نازك الملائكة، فإننا نكون جددنا التفعيلة وأضفنا على قوانين الشعر الحر خدوشاً، وهنا يتآخى خدش القانون مع سلامته بلا نزاع!
وقال:
يومَ قيلَ لعثمان
صعودك في القفر مئذنة
يوم قيل لعثمان (فاعلن فعِلن فاعْ)
صعودك في القفر مئذنة (فعولُ فعولن فعولُ فعُلْ)
لم يكمل الشطرُ الأول الشطرَ الثاني وزناً، ولو طبقنا القانون فسنقول:
(يوم قيل لعثمان (إنّ) صعودَك في القفر مئذنةٌ)
لنأتيَ بشعر من التفعيلة ملتزم بلا إهمال.
وتخيلُ الالقاء قاد الشاعرَ الى ألحاق حرف بالتفعيلة الأخيرة (لعثما/ن) من تفعيلة محذوفة من الصوت، تسكنُ مخيلةَ الإلقاء (إنّ)، ولولا هذا الافتراض لأشكلنا على الوزن وافترضنا كسراً عروضياً في القصيدة.
في القصيدة محطات كثيرة لهذا النمط من الخرم المخترع في الشعر لا أوردها جميعا تجنباً للإطالة، وسأختم القراءة بمثال:
ودجلةُ يهرعُ من خلفنا ويصيح إلى أين
سلة الذكريات
أين أمضي بها
وأين سأودع ما يتساقط من ورق الراحلين
إلى أين؟
إلى أين ؟
إلى أين؟
واختنقتْ عبرةٌ
دون أن يُرجع الضفتين
التطبيق:
ودجلةُ يهرعُ من خلفنا ويصيح إلى أين (فعولُ فعولُ فعولُن فعولُ فعولُ فعولان)
انتهى بـ(فعولان) والمفترض أن تكون النون الأخيرة من (فعولان) هي الفاء الأولى لتفعيلة بعدها، لكن الشاعر لم يفعل، وختم السطر بها وبدأ سطراً جديداً بتفعيلة تامة:
سلة الذكرياتْ
فاعلنْ فاعلان
ثم فعل الامر بشكل آخر مع هذا الشطر بأنْ ختمه بـ فاعلان وأهمله وأحدثَ شطراً جديداً:
أينَ أمضي بها
فاعلن فاعلن .