كتابٌ قديمٌ، لكن لا يزال بمقدوره أنْ يعطينا الكثير؛ أقصد به: «السياسة بين الأمم» للمفكر الألماني هانز جي مورجانتو. فمع أنَّ هذا الكتاب الذي تقع ترجمته العربية بأجزاءٍ ثلاثة، صدر للمرّة الأولى سنة 1948م، إلا أنه لا يزال مرجعاً في موضوعه، تُكتب عنه البحوث والدراسات.
ما أعادني إلى الكتاب الآن هو توصيفه للدبلوماسية ودورها، ففي نطاق تعداده مكوّنات القدرة الوطنية يمرّ المؤلف على عناصر الجغرافيا، المنابع الطبيعية، القدرة الصناعية، السكان، الجاهزية العسكرية، الروحية الوطنية وبقية المكوّنات. لكنه يتوقف طويلاً عند «الصيغة الدبلوماسية» بصفتها أهمّ عوامل الاقتدار الوطني، بحيث يذكر أن العناصر المختلفة المذكورة في هذا المضمار، هي بمنزلة المواد الخام، التي تدخل في تكوين القدرة الوطنية، وتنبثق هذه القدرة من بين أحشائها.
بيدَ أن هذه القدرة الوطنية تعود بدورها لتستند إلى الصيغة الدبلوماسية؛ فالصيغة الدبلوماسية أو الإطار الدبلوماسي للدولة، هو من يَمنحها الانسجام في مركب واحد، ويَهبها التأثير، ويُحدّد لها الاتجاه، وينفخ فيها القدرة بالفعل، ويوقظ إمكاناتها الكامنة فيها بالقوّة، ويُحولها إلى أفعال ومواقف، من ورائها مكاسب ومغانم.
إدارة الشؤون الخارجية للبلد من قِبل الدبلوماسيين في حال السلام، تعادل فعل القيادات العسكرية في تنفيذ الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية في وقت الحرب. الدبلوماسية في هذا النطاق هي فن صناعة القدرة الوطنية، عبر تكييفها مع الأوضاع الدولية القائمة.
وإذا كانت الروح الوطنية هي القلب، فإنَّ الدبلوماسية هي العقل المفكر للقدرة الوطنية، ومن ثمّ فإنَّ إهمال الدبلوماسية أو التعثر بها، سيعطل أو يُضعف إلى حدّ كبير، تلك المنافع الناشئة عن الموقع الجغرافي، والوفرة الغذائية والمواد الخام والإنتاج الصناعي، والجاهزية العسكرية، ولو على المدى الطويل.
أجل، على المدى القصير تكسب البلدان منافع، وتحقق لنفسها مكاسب محدودة من خلال عناصر قوّتها، لكنها تخسر المعركة على المدى الطويل، بفقدانها للصيغة الدبلوماسية والإطار الدبلوماسي.
ليست هذه الأسطر تحليلاً سياسياً، وليس العمود مخصّصاً للتحليل السياسي أساساً، إنما هي إشارة إلى رصيد عظيم يشهده بلدنا عبر كثافة الحركة الدبلوماسية، وكثافة حضور الزائرين من مختلف بلدان العالم وعواصمه. هذه الكثافة لن تكون ذات معنى، ولن تتحوّل إلى منافع وطنية، إلا بوجود صيغة دبلوماسية، تستند بدورها إلى استراتيجية محدّدة في سياستنا الخارجية، التي ترجع هي الأخرى إلى وجود المدوّنة الوطنية على
هذا الصعيد. أحبّ أنْ أختم بكلمات واضحة؛ من أن العقل لا يقود إلى العقلانية دائماً، تماماً كما أن المال والثروة، لا يقودان إلى الغنى دائماً وبالضرورة وعلى نحوٍ تلقائي؛ وهكذا حال الكثافة الدبلوماسية.